
أخيرا، تمخض الجبل فولد نمراً، إنها ليلة سقوط تهديد ووعيد ترامب الصارخ لفرض خطته لتهجير أكثر من مليوني فلسطيني وانتزاعهم من أرضهم وتاريخهم، وفرضهم على دول سيادية عنوةً، وبلغة عنجهية استعمارية استثمارية عدوانية عنصرية. إنها الوقفة التاريخية بوجه سادية وجبروت أعتى إمبراطور استعماري جديد، وهزيمة لأهداف وطموحات قائد الإجرام في الكيان الصهيوني نتنياهو وأعوانه وداعميه.
لقد حملت مواقف القادة العرب الأخيرة في رفضهم الخنوع لتهديدات ترامب أسباباً عديدةً: فالأمة العربية تملك تاريخاً عريقاً في مواجهة أعتى أشكال الاستعمار، وقد آن الأوان للتصدي لسياسة الإملاءات وفرض الأجندات السياسية، التي تعني وصاية استعمارية جديدة، وهذا ما حدث في اللقاء الذي تم بين الرئيس ترامب والعاهل الأردني، الذي اتصف موقفه بدبلوماسيةٍ رفيعةٍ، تُذكرنا بسياسة الراحل أبو عمار (لعم)، وفي المقام الثاني يأتي إصرار القادة العرب على إيجاد حلٍ جذري للصراع، بعد عقودٍ من الانسداد السياسي، ولقناعتهم بأن ما يحدث هو نتاجات لمقدمات هذا الصراع، وليس أسباباً له، لذلك فإن الإصرار على حل الدولتين برؤية عربية هو المخرج الوحيد والمنطقي لهذا الصراع.
وما ساعد النظام العربي لاتخاذ مثل هذه المواقف هو العزلة الدولية، التي مُنيت بها الولايات المتحدة و»إسرائيل»، بعدما عبرت دول العالم كافة، وعلى رأسها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، عن «رفضها أي تهجير للفلسطينيين خارج أرضهم، وأنه يجب العمل على تجسيد حل الدولتين، ومنح الفلسطينيين فرصة للعيش في دولتهم». ويأتي الموقف من اليمين الديني المتطرف الإسرائيلي، ليشكل دافعاً قوياً للعرب لرفضهم مخطط التهجير؛ لأن هذا اليمين يرفض أية صيغة للحل، ولا يرى أن الشعب الفلسطيني موجود، ويعتبر الضفة الغربية جزءاً من يهودا والسامرة، ويرفض أي وجود فلسطيني في غزة، سواءً أكانوا سكانا أو سلطة. كما عبر عن ذلك مؤخرا نتنياهو بقوله: «لا سلطة لحماس ولا السلطة الفلسطينية في اليوم التالي في غزة»، هذا اليمين لا يرى في الاستيطان إلا هدفا دائما له على حساب الشعب الفلسطيني، لذلك عمل على ضرورة إنهاء عمل الأونروا، أو وجودها، لأنها الشاهد الأممي الوحيد على نكبة 1948، وإنهاؤها يعني إنهاء قضية اللاجئين وتصفية حق العودة للشعب الفلسطيني إلى وطنه وأرضه، وهذا بدوره يعني للجانب العربي الوصول إلى حافة اليأس السياسي، جرّاء هذا التعنت الإسرائيلي اليميني، والتجاهل التام لحقوق الشعب الفلسطيني، ولعل ما حملته تصريحات نتنياهو وأركان حكومته المتطرفة، المتعلقة بمشروع الشرق الأوسط الجديد، وبرعاية الرئيس ترامب دقّ ناقوس الخطر على مصالح النظام العربي، ومستقبل اقتصاده ومقدراته وثرواته، التي باتت تحت أعين التجار الجدد وسطوتهم الجائرة على جغرافيتهم.
الخطر لن يقف عند حدود غزة وتهجير أهلها، بل يتسع إلى إعادة صياغة المنطقة وفق رسمٍ أمريكي إسرائيلي بيدٍ عربيةٍ مُغلفةٍ بدواعي حماية الشعب الفلسطيني من التهجير وحمايته من العدوان
إضافة لما تقدم، فإن خشية القادة العرب على أمن واستقرار دولهم، بتوطين هذا العدد الهائل من الفلسطينيين على أجزاء من بلادهم، من شأنه أن يشكل تغييراً ديموغرافياً قد يؤدي إلى تغييرٍ سياسي، وإعادة تشكيل الوعي المجتمعي العربي، ما يهدد سلطة الأنظمة، ولما يشكله الفلسطيني من عامل تغييرٍ وتثويرٍ للجماهير وقواها أينما حل. من ناحية أخرى، إن الطريقة والأسلوب الذي تم الحديث من خلالها مع القادة العرب حملت معها كل إهانة وانتهاك للكرامة الشخصية ولسيادة الشعب والدولة، وأمعن بالإساءة إلى مكانة هؤلاء القادة أمام شعوبهم. هذه المواقف الاستثنائية وغير المسبوقة أفضت إلى نتائج عديدة أولها، أنها أفشلت ولو بالأحرف الأولى مخطط ترامب للتهجير، وفرض رؤيته العقارية، وحققت انتصارا للمقاومة بكل أطيافها وللشعب الفلسطيني وطموحاته بهزيمة أحد أهم الأهداف الخفية لحرب نتنياهو الإجرامية، التي هدفت إلى تهجير الغزاويين. أضف إلى ذلك، إن هذه المواقف عبرت ولأول مرة منذ عقود عن وحدة الموقف بين الأنظمة والشعوب في القضايا الكبرى، ما يبشر بمرحلة جديدة في العلاقة بين الجماهير العربية وحكامها، ولربما كانت هذه بداية البداية لنهوضٍ عربيٍ شاملٍ. من جهةٍ أخرى، أظهرت هذه المواقف وحدة الموقف العربي إزاء القضية الفلسطينية في مرحلة من أخطر مراحلها. إن أية قراءة موضوعية لتصريحات ترامب الهجومية وسياسته الرعناء المتماهية مع أهداف ومصالح قادة الكيان، أشعرت القادة العرب بخطورة الأوضاع، وقد تداعت لتوحيد مواقفها لِتُعدّ خطةً عربيةً متكاملةً منطقيةً، تشكل رداً حاسماً عملياً على مخطط ترامب؛ تتضمن إعادة الإعمار لغزة، دون تهجير لأي فلسطيني خارج أرضه، ولتشكل رؤية واحدة نحو حلٍ جذريٍ للقضية الفلسطينية يتضمن إقامة دولة فلسطينية، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. بيد أن المعضلة هنا هل تستطيع كلٌ من مصر والأردن والسعودية المناورة في التعامل مع خطة ترامب، بحيث تسعى إلى إرضائه وعدم المجابهة معه، وفي الوقت ذاته سعيها إلى رفض خطة التهجير؛ خاصة أن مصر والأردن ستخسران المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لهما، ما سينعكس على أمن كلٍ منهما واستقرارهما واقتصادهما، لذلك فإن العرب في القمة العربية – المزمع عقدها في غضون أيام قليلة – سيكونون أمام واقعٍ جديدٍ قد نشهد فيه تغييراً لا يمكن التنبؤ بحدوده ونتائجه. لقد بات واضحاً أن التحديات التي تواجه الأمة العربية ليست مسؤولية النظام العربي فحسب؛ بل هي أيضاً مسؤولية كل القوى والحركات والأحزاب والهيئات بتياراتها واتجاهاتها وأيديولوجياتها كافة، لأن الخطر لن يقف عند حدود غزة وتهجير أهلها، بل إعادة صياغة المنطقة وفق رسمٍ أمريكي إسرائيلي بيدٍ عربيةٍ مُغلفةٍ بدواعي حماية الشعب الفلسطيني من التهجير وإيوائه من شرور الطبيعة القاسية وحمايته من العدوان، وما يرافق ذلك من ضرورة تجريد المقاومة من سلاحها، بناءً على ما يطالب به نتنياهو، لذلك على الأنظمة وهذه القوى أن تعي ما يُحاك لها من خططٍ تستهدف جرّها نحو الوقوع بقبضة التجار والمستثمرين و المستعمرين الجدد، وبفخ تصفية القضية الفلسطينية وحرمان الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقه وإقامة دولته على أرضه ووطنه. فهل توحد القضية الفلسطينية العرب شعوباً وأنظمةً من جديد؟ وهل مواقف الأنظمة العربية جادة؟ طوبى للعرب وقفتهم التاريخية.
كاتب فلسطيني
المصدر: القدس العربي