
قبل أيام من الذكرى الثالثة للحرب الروسية – الأوكرانية (24 شباط/فبراير 2022) اندلعت حرب كلامية مفاجئة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أثارت مخاوف واسعة في أوروبا والعالم، نظرا للتداعيات الكبيرة المحتملة التي ستؤدي إليها.
يمثّل نعت ترامب لزيلينسكي بأوصاف «الدكتاتور» و«الممثل الكوميدي المتواضع» تحطيما هائلا لشخصية الرئيس الأوكراني الذي كان يحظى بأشكال من الدعم غير المسبوق العسكري والمالي والسياسي، والترحيب الرسميّ الهائل، في مجمل البلدان الغربية التي كان يزورها، أو يستقبل زعماءها في كييف، إضافة إلى فتح الأبواب، والترحيب الشعبي بمئات الآلاف من العائلات التي فرّت إلى أوروبا على وجه الخصوص.
استند ترامب في توصيفه لزيلينسكي بالدكتاتور، في إطار تقويضه المصداقية السياسية للرئيس الأوكراني بكونه «يرفض إجراء الانتخابات» لكنه لم يكتف بذلك فقد قام أيضا بتقويض مصداقية دفاع الأوكرانيين عن بلادهم بدعوى إن كييف «مسؤولة عن الغزو الروسي الشامل لها» وانتقل من ذلك للقول إن زيلينسكي (وليس الأوكرانيين أنفسهم) دخل «حربا لا يمكن الانتصار فيها» وذلك بإقناعه «أمريكا بإنفاق 350 مليار دولار عليها» وبأنها حرب «لن يتمكن من تسويتها أبدا من دون الولايات المتحدة وترامب».
رد الرئيس الأوكراني على نظيره الأمريكي بالقول إن ترامب «وقع في فقاعة تضليل روسية» مما زاد من غضب زعيم «البيت الأبيض» فوسّع نطاق هجومه مطالبا أوكرانيا بخمسمئة مليار دولار (50٪ من معادنها النادرة) ـ فألغى زيلينسكي مؤتمرا صحافيا مع مبعوث ترامب، ثم رفضت واشنطن تبني مشروع قرار للأمم المتحدة لدعم أوكرانيا… الخ.
دافعت المفوضية الأوروبية عن زيلينسكي فصرح متحدث باسمها بأن الرئيس الأوكراني وصل الى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية فيما أن روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين «دولة غير ديمقراطية» واعتبر المستشار الألماني أولاف شولتز تصريحات ترامب «خاطئة وخطيرة» ورد رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر، بطريقة غير مباشرة، بالاتصال بزيلينسكي «للتعبير عن دعمه» وصرّح رئيس وزراء بولندا، الدولة المجاورة لأوكرانيا (ومن أكثر الدول الأوروبية رهبة من إمكانية اجتياح روسي) أن «الاستسلام القسري لأوكرانيا يعني استسلام المجتمع الغربي بأكمله» وظهرت آثار هذه الحرب الكلامية خارج «المجتمع الغربي» فاتهم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا نظيره الأمريكي بأنه يريد «طرح نفسه إمبراطورا للعالم».
عبّرت حرب ترامب الكلامية على زيلينسكي عن انعطافة سياسية كبيرة، لكنها تتكامل، في الحقيقة، مع مجمل سياسته الخارجية التي بدأت بالبلدان القريبة لأمريكا في تمثيل معاكس لمقولة «الأقربون أولى بالمعروف» (كندا والمكسيك وبنما) كما أغضب ترامب الدنمارك بدعواه لاستملاك جزيرتها في غرينلاند، والاتحاد الأوروبي بقرار رفع رسوم التصدير، وكان التغيير الكبير في سياسته نحو روسيا (التي تعتبرها أوروبا تهديدا عسكريا خطيرا) وأوكرانيا، وترويجه، مع حليفه إيلون ماسك، لتيارات اليمين المتطرّف، إيصالا لهذه السياسات الخارجية إلى ذروة غير مسبوقة.
أدى هذا الانقلاب الدراميّ إلى تغيير سريع في موازين القوى والديناميّات في العالم، وليس في أوروبا فحسب، فأعلنت القيادة الأوكرانية عن استعدادها لمبادلة أراض، فيما أظهرت موسكو حيثيّات القوة الدافعة الجديدة التي أمّنها ترامب لها (أحد تصريحاته كان: «أوكرانيا قد تصبح روسية يوما ما»!) فاعتبرت مبادلة الأراضي «أمرا مستحيلا».
حظي الفلسطينيون والعرب، بانقلاب ترامبي أكثر إرعابا، بانتقاله من داعية «إنهاء الحروب» إلى المهدد بفتح «أبواب الجحيم» على قطاع غزة، وصولا إلى المطالب بتهجير الفلسطينيين، واستملاك الأمريكيين لغزة، وفي أحد الالتواءات الغريبة، قام ترامب بربط بين قضيتي أوكرانيا وغزة، عبر توكيل رعاية المصالحة الأمريكية ـ الروسية إلى المملكة العربية السعودية، في الوقت الذي كانت تستعد فيه لعقد قمة مصغرة يفترض أن تضع خطة لمواجهة الاقتراحات الأمريكية (التي غدت هدفا إسرائيليا) في شبك للخيوط، يجمع بين حبكات الدبلوماسية و«فن الصفقات» والاستشراق البائس، لكنه لا يمكن أن يؤخر الارتدادات العالمية الكبرى التي لا يتوقعها «الامبراطور».
المصدر:القدس العربي