
في أواخر يوم صيفي بريطاني دافئ كنت عائدا في قطار الأنفاق من وسط لندن إلى منطقة ويمبلدون، وكان الموج البشري يموج دخولا وخروجا كلما توقف القطار في أي محطة. جموع من الركاب تنزل وجموع تصعد. ولكن ليس بنظام وسكينة، بل بتسرع وتدافع. ودع عنك الانطباعات التي كانت رائجة طيلة القرن العشرين حول انضباط البريطانيين وحسن نظامهم وانتظامهم في طوابير الانتظار في المحطات وأمام المحال التجارية وعدم اجتيازهم الطريق إذا كانت العلامة الضوئية حمراء، الخ. لأنه لم يعد لكل تلك العادات الحسنة اليوم وجود ملحوظ. فقد تغير الناس وتغيرت البلاد. ورغم أن إعلانات مكبر الصوت تطلب من الركاب في المحطات الكبرى عدم التعجل وتنبههم إلى وجوب انتظار خروج النازلين من القطار قبل محاولة الصعود، فإن كثيرا من الصاعدين لا ينتظرون ولا يحترمون، فيحدث بذلك بعض التوتر أو المواجهات. وهذا ممّا يثبت صحة النظرية القائلة بأن الجموع لا عقل لها، أي أن الفرد قد يفقد ملكة المنطق السليم إذا أصابته عدوى السلوك الجماعي، نظرا إلى أن هذا السلوك كثيرا ما يكون غريزيا لا تفكير فيه.
كانت الجموع في صعود ونزول، ولكن صادف أن جارَيَّ الجالسيْن على يميني بقيا ثابتين في مقعديهما لأنهما يقصدان، مثلي، إلى آخر محطة. كانا يبدوان في أواخر العقد السابع أو أوائل الثامن من العمر. جنتلمان إنكليزي أنيق وسيدة محترمة تهمس في حديثها معه همسا بما لا يدع مجالا للشك بأنها من بقايا الوَرَثة الحَفَظة للحميد من خصال قومها الآيلة إلى الانقراض. لما بلغنا مقصدنا قال لي الرجل باسما: ما أجمل أن نرى في هذا الزمن شخصا يقرأ كتابا! فلم أدرِ تحت وقع المفاجأة بماذا أجيب سوى أن شكرته قائلا: في الواقع لا أحسن قراءة غيره. وواضح أن الرجل كان يعرّض بإدمان الجميع تقريبا التحديقَ في شاشة الموبايل وثباتهم على ذلك مهما طالت الرحلة، حتى أن أحد رسوم الكاريكاتير الصحافي قد صور ركابا على متن طائرة وهم يلتفتون مندهشين بأجمعهم إلى الخلف. فما الذي أدهشهم؟ إنه مشهد رجل يقرأ كتابا!
الانطباعات التي كانت رائجة طيلة القرن العشرين حول انضباط البريطانيين وحسن نظامهم لم يعد لكل تلك العادات الحسنة اليوم وجود ملحوظ. فقد تغير الناس وتغيرت البلاد
لهذا فإن أندرو بوستمان بادر إلى الاعتذار في توطئته للطبعة الثانية من كتاب والده، الموسوم بـ«ترفيهَا عن أنفسنا حتى الموت» مقدّرا أن نشر كتاب في أيامنا هذه التي لم يعد الناس يعترفون فيها إلا بالشاشات (الموبايل، والأيباد، واللابتوب، الخ) هو من قبيل الاستفزاز أو حتى العدوان! ولكن كتاب الناقد الاجتماعي الراحل نيل بوستمان جدير بإعادة النشر مرارا لأنه هو الذي كان سباقا إلى استشعار إشكالات الطوفان الإعلامي الزائف والترفيهي التافه التي يغرق فيها عصرنا. ذلك أن الكتاب نشر أول الأمر عام 1985. ومن علامات التأثير الواسع الذي أحدثه الكتاب سواء بين المثقفين أم بين عموم القراء أن روجر ووترز نجم فرقة موسيقى البوب الشهيرة «بينك فلويد» أصدر ألبوما بعنوان «ترفيه حتى الموت». إذ يصور الكتاب كيف أن التلفزيون أخذ يحول الحياة العامة بأسرها، من شؤون التربية والدين إلى السياسة والصحافة، إلى مواد منوعة للتسلية والترفيه؛ وكيف أن الصورة أخذت تزعزع بسطوتها أسس أنماط التواصل الأخرى، وخاصة الكلمة المكتوبة؛ وكيف أن شهيتنا اللامحدودة للفرجة التلفزيونية سوف تجعل العرض المشهدي متاحا بكميات لا تحصى؛ وكيف أن «الفيض الإعلامي» سيكتسحنا ويغمرنا غمرا حتى يضيع ويتلاشى كل شيء ذي معنى فلا نعود نبالي بما فقدْنا وضيّعْنا طالما أننا نتسلى…
ويؤكد كثير من المثقفين والأساتذة الجامعيين على استمرار أهمية كتاب بوستمان وانطباق آرائه على واقع القرن الحادي والعشرين. إلا أن ابنه أندرو سعى، مع ذلك، إلى التماس دليل هذه الأهمية لدى تلامذة المدارس الثانوية من أبناء هذا العصر الرقمي. فإذا بأحدهم يقول: الكتاب يثبت أنه لم يعد للبشر وقت للتفكير. ويقول آخر: كلما ذهبت للمقهى أو المطعم رأيت الناس كلا مع موبايله، إما مُحملقا في الشاشة أو مُلاعبا نفسه أو مُهاتفا شخصا ليس هناك. بينما قالت تلميذة: إن الكتاب أقوى انطباقا على عصرنا. فقد تساءلنا: ما هي قناة التلفزة التي لا ينحصر نشاطها في الترفيه؟ حاولنا العثور على مثال يدحض النظرية، فأجاب أحدنا: قناة الأحوال الجوية. إلا أن آخر استدرك: ولكنهم يتفننون في تصوير الأعاصير ويحاولون جعل مشاهدة تقلبات الطقس ممتعة!
كاتب تونسي