
عمّقت الحرب الأخيرة الانقسام بين اللبنانيين. جعلته في المقابل انقساماً أكثر صعوبة على الإمساك به أو إجماله في صيغة قولية واضحة وشاملة. قبل هذه الحرب كان اللبنانيون منقسمين فيما بينهم من ضمن عناوين أخرى، إنما في موقع الصدارة بين كل العناوين، حول «مسألة حزب الله» تحكمه بقرار الحرب والسلم، وامتلاكه وتشغيله لمنظومة سلاح وعنف موازية لجهاز الدولة اللبنانية، ورعايته لأحوال التعطيل في مؤسسات هذه الدولة. كانوا منقسمين بين من يؤيد ومن يجامل وبين من يتفلت ومن يرفض ومن يناهض سرديات هذا الحزب. بعد الحرب صار اللبنانيون منقسمين قبل كل شيء آخر حول ما أوصل لهذه الحرب، وما جرى خلالها، والوضع الذي أفضت إليه، وحول كيفية ترجمة آثارها على مستوى توزع السلطة ومن يمارسها ولأي وجهة يمارسها في لبنان. لقد اتسمت الحرب بانعدام التوازن الفاحش. عُلّقت في شكلها التدميري الإرهابي المكثف، بما يعكس هذا اللاتوازن، وهي مستمرة كوقف إطلاق نار من جانب واحد. لكن اللاتوازن الحربي التدميري لم يفض إلى ما يعادل «الاستسلام دون قيد أو شرط» وإنما إلى التباس يعلن الثنائي الأمريكي الإسرائيلي أنه المرجع الصالح الأوحد لتأويله. هذا الالتباس يتفرع إلى أمرين. أولا، موافقة حزب الله على تفكيك منظومته العسكرية بالكامل جنوب نهر الليطاني، بمعية الجيش اللبناني، وتحت أعين لجنة إشراف يرأسها ضابط أمريكي، ومن دون أن يكون بموجب نص الاتفاق المنشور من حق للحزب سحب ترسانته جنوب النهر إلى الضفة الشمالية له، أي إلى الداخل اللبناني. وإنما التنصيص على مصادرة هذا السلاح حيثما هو موجود جنوباً، بما في ذلك منع الجهة اللبنانية الرسمية من اقتنائه، خشية تمريره مجدداً إلى جماعة «الحزب». وجه الالتباس هنا، أن الاتفاق بين لبنان/ الحزب وبين إسرائيل يقترن بتفاهم أمريكي إسرائيلي يجيز التحرك الفوري لضرب أي نقطة للحزب لم يجر تفكيكها أو تعمل على إعادة تنشيط نفسها – وهنا لم يعد الأمر يقتصر على جنوب النهر. الالتباس أكبر شمال النهر. إذ لا ينص اتفاق الهدنة المدّد له مع استمرار احتلال إسرائيل لقرى جنوبية حدودية دمرتها بالكامل على تفكيك واضح وصريح وبأمد محدد لجهاز حزب الله العسكري والأمني شمال نهر الليطاني، إنما ينص على منع تدفق أي مال وأي سلاح إلى هذا الجهاز لأي غرض كان، سواء كان للحزب جنوب أو شمال النهر، أو في أي بقعة على كوكب الأرض. وهنا أيضا، يجري تأول الاتفاق بوساطة التفاهم الأمريكي الإسرائيلي، بما يجيز التحرك الإسرائيلي الهجومي ضد كل ما يتعارض مع حالة منع تصدير المال والسلاح الإيرانيين إلى لبنان.
الاتفاق بين لبنان/ الحزب وبين إسرائيل يقترن بتفاهم أمريكي إسرائيلي يجيز التحرك الفوري لضرب أي نقطة للحزب لم يجر تفكيكها
الاتفاق واضح بما فيه الكفاية من جهة أن طابعه العام هو أنه لامتوازن، لكنه ملتبس من جهة أنه يترك تفكيك كامل ترسانة الحزب كنتيجة منطقية لاجتماع بنوده كاتفاق وليس كبند أصيل ومميز على حدة من ضمن بنوده كاتفاق. هذا الالتباس مفخخ، وبشكل نافر. مشروع تفخيخي بامتياز لمستقبل المعاش السياسي والأهلي اللبناني. لا مكابرة الممانعين على نتائج الحرب، ولا مكابرة أخصامهم على استفحال الانقسام بين اللبنانيين وليس أبداً تلاشيه، بمستطاعها التنبه بجدية وفعالية لما يمكن أن يفضي إليه هذا الالتباس المفخّخ. هناك صعوبة عميقة في أن يضع الواحد نفسه محل الآخر. هناك من دفع فاتورة دموية وعمرانية وتهجيرية باهظة، وهناك من لم يدفع نفس الفاتورة لكنه كابد حرباً كان كل الوقت يحذر من وقوعها، وينبه من غلاظة الأوهام الدعائية حولها. والانقسام هنا غير قادر على صياغة نفسه كما كانت الحال قبل الحرب الأخيرة، في سرديتين واضحتين. فسمة «حزب الله» بعد الهزيمة؛ وهو الحزب الانتصاروي المستدام في صورته عن نفسه لم تعد واضحة. إنه في الوقت نفسه موجود ومعدوم. هناك شيء منه فُقد ولن يعود. إذ كيف يمكن أن يستمر في الوجود بعد هزيمته من أقام سرديته على أن عهد الهزائم قد ولى؟! لكنه لم يندثر. ما زال موجوداً، لكن وجوده من النوع الذي يرسف بأغلال المعدومية. فهو الآن من النوع غير القادر، ولا الراغب، في التحول مثلا إلى حزب إسلامي شيعي للأغراض السلمية. احتاج الحزب للاتفاق كي لا يترك المناطق الشيعية تُدمَّر بالكامل على يد إسرائيل، ولأنه يدرك مخاطر استمرار اللجوء الشيعي في المناطق غير الشيعية، وكيف يمكن أن توظف المسائل ضده، ولأن انعدام التوازن التدميري بشكل متواصل هو من النوع الذي يهدد باستنزاف كامل جهازه. في الوقت نفسه، كان بإمكان الحزب الاستمرار بالقتال لأشهر أطول – وحتى الآن. بما يرفع كل الفواتير المارة الذكر، ويجبر إسرائيل على رفع معدل سعارها لكن أيضاً على دفعها لاستنزاف طويل الأمد في لبنان، وربما كان سيؤدي ذلك الى تدخل مباشر للولايات المتحدة، وإلى خروج الجماعات اللبنانية الأخرى عليه. عندما سارع الحزب لإبداء استعداده لأي وقف إطلاق نار لأنه لم يعد يملك سلاحاً يقاتل به، ولو أن معظم ترسانته قد فجّرت مخازنه، ولا لأنه ما عاد قادراً لوجستياً وعسكرياً على القتال، بل لأن الأمور كانت ستتحول إلى جهنمية، وتضع الشيعة في لبنان في خطر وجودي، ديموغرافياً وسياسياً، من الصعب تعويضه لاحقاً. لا يلغي ذلك أنه كان بمستطاع حزب الخمينية اللبنانية نيل وقف إطلاق نار من النوع الذي لا يدفعه الى القيام بتنازلات جسيمة بالنسبة له ما أن توقف الحرب التدميرية. وربما كان يمني النفس بأن هذه التنازلات ستقف عند حد بعد ذلك، بفعل تعقيدات الوضع، المنظورة منها وغير المنظورة. لكن ما حصل هو أن اللاتوازن تعمق أكثر ما أن عُلّقت الحرب الكليّة، وخاصة بعد أن أدى انهيار نظام آل الأسد في سوريا إلى بعثرة خط الإمداد الإيراني البري للحزب. أضف للشعور العام عند الشيعة في لبنان أن كل هذا الدم الذي أريق في سوريا لم ينفع الحزب في شيء، بل أضعفه في نهاية المطاف. لا ينص قرار وقف إطلاق النار على تسليم الحزب لكامل سلاحه لكنه يدفع في هذا الاتجاه ويترك المسألة شائكة: قل هو التباس تفخيخي للواقع الحزب اللهي واللبناني ككل. التعامل مع هذا الالتباس تعوزه الحكمة في الداخل اللبناني حتى الآن. هناك حزب يستوعب ضمنياً، إنما من دون خطاب سياسي مواكب لهذا الاستيعاب، أن الحصار قد غلظ عليه. وهناك أخصام له يستوعبون أنه أصيب في نخاعه الشوكي، لكنه لم يلفظ الروح بعد. في المقابل، الحزب ما زال يحركه الرهان على تجيير الالتباس التفخيخي لحسابه. لكن اتفاق وقف إطلاق النار أشبه ما يكون بوكالة عامة غير قابلة للعزل للولايات المتحدة الأمريكية جيرتها الأخيرة كوكالة بالإنابة لإسرائيل. والأخيرة يهمها تفاقم التناقضات في الداخل اللبناني شمال الليطاني، لكن يهمها أيضا أن لا يعيد الحزب تشكيل نفسه من خلال تمترسه وراء هذه التناقضات. الانقسام اللبناني يتعمّق، وفي الوقت نفسه، الأمريكيون والإسرائيليون لا يريدون أن يحتمي الحزب بهذا الانقسام.
كاتب من لبنان