
هل يمكن تفادي الحديث عن الديمقراطية وتجويز صرف النظر عن استحقاقها وإلحاحها، بدعوى أنّ اللجاج حولها قليلاً ما نفع، بل أضرّ وأفسد وعفّن؟ وأن إطناب الحديث عنها، ولصقها كحل سحري وفوقي وفجائي بكل المشاكل عصفها ومسخها وأوقعها مطية لكل مخادعة، للذات أم للغير، لا فرق؟ وأن مصادرة وتعليق وتأجيل وتتفيه غيرها من قضايا ومسائل باسمها سحب بالنتيجة البساط نهائياً عنها؟
إذ لم يشفع كل هذا الصخب الذي كانت الديمقراطية عنوانه الأبرز بالسير إليها، بل لم يؤد الإسراف في اللغو بصددها، والغلو في الرغبوية والإدارية بشأنها، على حساب التفاعل مع الواقع وطيّاته وتعقيداته، إلا إلى إتلاف الدفع في اتجاهها، وإحباط الشوق إليها، وأنه، في هذه المرحلة سواء سميناها بالمرحلة الراهنة، أو وصفناها بالمرحلة التاريخية – وما عادت التاريخية هنا تفهم ما الذي تعنيه بالتحديد، هذا إن كانت تعني – لم يعد هناك ما يُنتظر من فكرة الديمقراطية، والأفضل بل الأسلم للفاهمة والذائقة على حد سواء طرحها جانباً، اجتنابها، لفظها، أو أقله تركها لجيل آخر، يتدبّر أمرها وينظر في تعبئة رصيدها من عدمه. الآن هي بلا رصيد. بل هي اللارصيد عينه.
لقد مرت تواقيع الفكرة الديمقراطية في البلدان العربية بعدد من المراحل في العصر الحديث.
في المرحلة الكولونيالية، المتفاوتة بين البلدان، تمحور جزء من سردية الحركات الوطنية حول رغبة وقدرة الشعوب على اقتباس المؤسسات الدستورية من الحواضر الغربية في مقابل الجلاء والاستقلال، لا سيما وأن الإدارات الاستعمارية ما كانت تتردد في التدخل الفظ على حساب الصيغ الدستورية المعمول بها في ظل الانتداب والحماية.
نهضت سردية التحرر الوطني على الوعد بمتابعة التطور الدستوري التعددي بشكل أكثر ثقة وانسجاماً ورسوخاً ما أن يُزاح علم الحاضرة الاستعمارية. لكن، ما أن جلت جيوش القادمين من وراء البحار، حتى تهاوت التجارب الدستورية البلدية معها. أيضا لأن هذه التجارب ما كانت قادرة على توسيع قاعدتها الاجتماعية ولا على تنويع نخبها. وفي المطرح الوحيد الذي سمحت بذلك، أي في سلك الضباط، كانت النتيجة هو صعود ضباط الطبقة الوسطى المتحدرين من أصول ريفية حديثة العهد، وبشكل ناقم في آن واحد وطنياً واجتماعياً على نظام الأعيان والأفندية، وغير قادر على تمييز هذا النظام القديم المدان بمسؤوليته في هزيمة 1948 عن الدستور والتعددية السياسية وحرية الرأي والفكر.
لا مجال لإعادة جعل كلمة ديمقراطية تتصف بمدلول نافع لصالح العدد الأكبر من الناس في مجتمع ما من دون إعادة التفكير في ما يمكن إعادة استصلاحه وإحياؤه من فكرة الاشتراكية؟
النتيجة أن عصر النهضة العربية انتهى في اللحظة التالية مباشرة لرحيل المستعمر بدل أن يتوهج ويسطع في إثر الجلاء، وأن ديمقراطية القلة جرى الإطاحة بها، باسم الكثرة، إنما من قبل قلة أخرى، شعبية الأصل، فتية وحالمة، ولو أنها تحولت بعد ذلك إلى مجاميع كالحة هرمة، مهووسة بالتجسس على الناس، و«تعسيسهم» – أي تحويل عمومهم، إلى عسس – وامتصاص الثروات وتبديدها. كل هذا بدأ بإعدام ديمقراطيات الباشوات والبكوات «الضيقة – الفوقية» باسم «ديمقراطية الجماهير» وقوى الشعب العامل» حتى ولو أن الجماهير لم يطلب منها سوى أداء دور «المؤيد للقرارات المتخذة» من رأس الجهاز، وفي أحيان كثيرة، القرارات المرتجلة.
جرى هكذا استبعاد الديمقراطية التمثيلية، الليبرالية، القائمة على توطيد مجموعة أساسية من الحريات العامة والخاصة، وتكريس حاكمية القانون واستقلالية القضاء، والتداول على السلطة، والانتخابات التنافسية والتعددية السياسية، باسم الديمقراطية الاجتماعية، والإصلاح الزراعي، وإعادة توزيع الثروات. فكان الاستهداء إلى شعار الاشتراكية، ربطا بهذا الإيثار للديمقراطية الاقتصادية على تلك السياسية. وباسم الاشتراكية سُوّغ لنظام الحزب الواحد، وعبادة الزعيم الملهم، الذي يتجسد فيه الشعب. أصاب هذا التحول الذي قادته مجاميع الضباط من الطبقة الوسطى نصف الريفية الشيوعيين العرب بالصدمة. الأخيرون كانوا يعتقدون بأن المرحلة هي للبرجوازية الوطنية تقودها إلى التحرر الوطني والديمقراطية. وأن المرحلة بالتالي ليست للتحويل الاشتراكي، بل لإنتاج ضرورته المجتمعية التي لم تظهر بعد. «المفاجأة» كانت أن القادمين من الطبقة الوسطى، بهراوة العسكر، فرضوا موضوعة الاشتراكية. اشتراكية إنما من دون صراع طبقي، بل على قاعدة تفاديه، ومن دون علمانية، ولو سمت نفسها اشتراكية علمية كما فعل ميثاق العمل الوطني 1962 في ظل جمال عبد الناصر. بالنتيجة، أخذت الاشتراكية العربية هذه تتفسخ، إن لجهة تعثرها التنموي، أو إغلاظها على نبض الحياة في المجتمعات، أو بأثر من هزيمتها القومية، قبل عقود من انهيار الاشتراكية السوفياتية، فسارعت الأنظمة السلطوية نفسها، بدءا من «تعددية المنابر» في مصر، وبشكل مقارن مع إطاحة زين العابدين بن علي في تونس، إلى تبني الديمقراطية كبديل من موقع الأنظمة نفسها. انتقلنا، هكذا، من عصر «الاتحاد الاشتراكي العربي» ومن النموذج «اللايت» للاشتراكية «الدستورية» في حال تونس (أيام الحبيب بو رقيبة) إلى الديكتاتورية باسم تعبيد الطريق للتحول نحو الديمقراطية. فكانت تجربة «الحزب الوطني الديمقراطي» في مصر كتكثيف لهذه المرحلة التي دامت منذ نهاية السبعينيات وحتى انتفاضات 2011. كانت فكرة هذه الأنظمة تقول بأن الاشتراكية سحبت من التداول، سواء عندنا أو على صعيد العالم، ولم يبق سوى الديمقراطية، إنما ينبغي الاستعداد لها، تأهيل النفس والحزب وآلة الدولة والمواطنين لها. جعلها، باختصار، تؤدي الوظيفة إياها التي أُسندت سابقاً للاشتراكية: الحاجة إلى إشعار الناس بأنهم يعيشون في زمن «مؤقت» كل ما فيه ليس له معنى إلا حسب ما هو مراد له في المستقبل، وإشعار الناس في الآن نفسه أنهم يعيشون في زمن فوق الزمن، في «الأبدية» أبدية النظام العصي على كل تعثر في التنمية، وعلى كل كبوة أو هزيمة، بل وعلى الموت البيولوجي نفسه.
بعد انتفاضات 2011 ستظهر سردية أخرى: أن الشعوب فرضت أجندة الديمقراطية ثم خربتها بأيديها، أو لم تكن قادرة على الدفاع عنها فخرّت هذه الديمقراطية صريعة، أو أنها ما إن أفسحت المجال للديمقراطية حتى فاز بها في أول الأمر أعداءها. باختصار ستظهر سردية أن الديمقراطية كانت شوقاً مشروعاً طالما هي لم تُجرّب، ثم حصل أن جرّبت، في مصر وتونس، فكان تجريبها كافياً للوقوف على كنهها، والعدول عنها. والأساس في هذا؟ أن العقد الاجتماعي الذي يجعل مصدر الشرعية في الشعب غير مناسب لهذه البلدان، وأن العقد الأجدى البحث عنه هو بين حاكم ومحكوم، لا يشعر فيه الحاكم بأن المحكوم هو من أتى به إلى السلطة، في مقابل أن يعي إن رأفته وحلمه مع هذا المحكوم ورعايته له هو ضرورة لبقائه في السلطة. هذا ما يطرح اليوم بشكل أو بآخر. ويطرح هنا من موقع الإسلاميين، وهناك من موقع الليبراليين. ليست هناك طبعة واحدة لسردية انفكاك السحر عن الديمقراطية، بالشكل الداعي لإحلال معياري فعالية الحاكم ورضا المحكوم على الحاكم مكانها. في المقابل، ربما كان في انفكاك السحر عن الديمقراطية، ومن قبله انفكاك السحر عن الاشتراكية، ما يدعو للتأمل في مصائر هاتين الفكرتين عند العرب، وكيف لحقت الثانية، الديمقراطية، بسابقتها، الاشتراكية، لجهة أننا في الحالتين، أمام إله من تمر جعنا فأكلناه. ألا يعني هذا في المقابل أنه لا مجال لإعادة جعل كلمة ديمقراطية تتصف بمدلول نافع لصالح العدد الأكبر من الناس في مجتمع ما من دون إعادة التفكير في ما يمكن إعادة استصلاحه واحياؤه من فكرة الاشتراكية؟
كاتب من لبنان
المصدر القدس العربي