يعود الحديث عن "كبولاني" ـ موظف بلدية واد شرق بالجزائر1889 والملحق عام 1895 في الحكومة العامة بالجزائر و تحديدا في الجهاز السياسي والعسكري الاستعماري الفرنسي الحاكم ـ
في هذه الأيام و بمحض الصدفة "المضحكة" أو سخرية الأقدار بالأحرى لخروج الحديث حوله عن سياق أية معالجة تاريخية رصينة تسهم في إحقاق الحق، و على أديم موريتانيا الذي مات فوقه مستعمرا جائرا لا "مُحلا للسلام Le Pacificateur de la Mauritanie" كما لُقب ادعاء و جورا، بل مغتصبا مستهينا حيا بعادات و أخلاق و ميزات أهلها أيا كان سوؤها و عدم مدنيتها أو بعدها عما هو عليه و ما هو حامله و مدعيا أنه رفيع القيم الحضارية؛ و رغم كل هذا فقد رحمه، على النقيض من خُلقه، هذا الأديم ميتا فأعطاه حيث ووريت جثته لتسلم من تمزيق الجوارح و نبش الذئاب و الضباع.
و ما العودة إلى الحديث عن منسي من التاريخ و منفي فيه من الشعب ـ كما يجدر بالأمر أن يكون منطقياـ إلا للتذكير بأن الخلود نعمة إلهية مثلى لا تعطى إلا أهلها المصطفين في رحاب الرضوان من إخلاص لوجه الله و إتباع لأوامره و منها الجهاد في سبيل حفظ الملة من التدنيس و المقاومة للدفاع عن حوزة الوطن من احتلال كما فعل الشيخ ماء العينين، أحد سالكي هذه الطريق في البلد، مثله في ذلك من الأمراء المجاهدين و العلماء المفتين و الوطنيين الغيورين المخلصين من كل شرائح و فئات الشعب الذين سطروا بالجهاد الصادق و المقاومة الشريفة للتاريخ و للمجد الخالد معارك و ملاحم باقي ذكرها لا تطفئها الأفواه الناكرة، و إن اللائحة طويلة و عطرة بأسماء أصحابها الغر الميامين و المجاهدين المبجلين الصادقين الذين لا يعني ذكر البعض منهم لغاية التيمن و ضرب الأمثال دون الآخر منقصة في شأن أو نسيا لألقاب لامعة مضيئة و صفات عالية قد حفظها التاريخ بعدما كتبها بأحرف من ذهب و احتضنتها الذاكرة و خالط حبها الأفئدة و المهج، بل إن البعض منهم الذي يُذكر دون عناء بحث في ذاكرتهم الجامعة المانعة لذكر يُستدل به و يُعبر تلقائيا عن الآخر فيبرز كل الملامح المشتركة بينهم و قد تقاسموها أحياء في الدنيا و يتقاسمونها أحياء عند ربهم يرزقون.
و لا يمكن أن يدرج ذكر محتل مطلقا في سياقٍ شاكرٍ و ممتدحٍ و مثمنٍ مهما كانت الصفات التي تقمص رداءَها المُغالط و منها لغة القوم و دينهم ليمرر رسالة و يخلق أمرا واقعا مغايرا جديدا في تحد سافر للتاريخ و لروح الحضارات النابض بخصوصيات أهلها، إلا كان وجهُ النفاق فيه صارخا و متعدٍ أثيم على مسطرة ناموس الأخلاق الفاضلة و ضوابط الإنسانية المشتركة، و إذ كيف :
بفرنسا لا تذكر و تشكر القائد النازي العسكري الميداني الفذ "رومل Rommel" الذي شيد درع الأطلسي بفرنسا في وجه الإنزال الكبير على شواطئ النورماندي Le grand débarquement de la Normandie تاركا للفرنسيين معالم هندسية عالية،
و "هتلرHitler " الذي تطاول قبله بـ"نقاء" عرقه "الآري" ليعلم الآخرين احترامه و إتباعه؟
·و لماذا لا تشكر و تفتخر مصر بنابليون الذي قدر الحضارة المصرية و جاءها و إن غازيا في حملة مهيبة بدفين اعتبار للإسلام و بأول طابعة بأحرف عربية؟
و لماذا لا يشكر و يمتدح الهنود الحمر من الأنكا Incas و المايا Mayas و الأزتك Aztèques أصحاب الحضارات المعجزة للأذهان الغزاة "الكونكيستادور Conquistadors" الأسبان الذين جاؤوا غزاة و مستوطنين؟
و لماذا لا يشكر الأثيوبيون الإيطاليين على تعريف العالم بـ"مسلتهم Stèle" المأخوذة كرها من مدينتهم "Axoum آكسوم"، و لم يهدأ لهم بال حتى استعادوها حجرا أخرس، لم يفصح للمؤرخين عن معلومة، لمهده و لكنه ظل ناطقا بشخصيتهم الحضارية؟
لا شك أن رفض أهل هذه الحضارات الغزاة و البغاة و أصحاب المشاريع الحضارية بالقوة و الحيلة و احتقار الآخر أمر مشروع، كما لا ريب في أن هؤلاء لا يمكن بأي حال أو مسوغ أن يلقوا ترحيبا أو شكرا لأي سبب، و إن كان و حصل، فإن من بعض أهل هذه البلدان و الحضارات و قلة من استساغوا ربما طعم المسخ الثقافي L'aliénation culturelle، و لهم إلى ذلك أسبابهم الدفينة من نقص و هوان، أسباب لا صلة لها مطلقا بموروث الأمة المشترك الرافض لتغيير ملامح حضارتها و قيمها و معتقدها على يد وافد يحمل السلاح و يفرض مسخه المريب على الآخر بالقوة و الحيلة.
و إنه في ظل استحالة الاعتذار "الكبولاني" للشعب الموريتاني، فإن الجهة المخولة ذلك تبقى وحدها الدولة الفرنسية التي سلطته ذات يوم على هذه البلاد ليباشر تغيير ملامح أهلها الحضارية بما أمكن إن لم ينجح مطلقا في مسخهم و حتى يهتفوا بقيمها و يأخذوا بثقافتها كما تحقق لهم ذلك في بعض الدول التي بسطوا عليها في ما مضى هيمنتهم.