عدت منذ أيام قليلة إلى طرق أبواب بعض الأصدقاء من المهتمين صحافيا أو أكاديميا بغير بلاد العرب، عدت بسؤال محدد: كيف تقرؤون أحوالنا، وشرور الاستبداد والحروب الأهلية والإرهاب والاحتلال والتدخل الخارجي تفتك بنا مواطنين ومجتمعات وتواصل إعمال معاول هدمها في مؤسسات الدول الوطنية التي انهار بعضها بالفعل؟ بما تفسرون نزوع القوى الكبرى إلى التورط عسكريا في حروب وصراعات بلاد العرب، وامتناعها عن توظيف نفوذها إما بهدف التهدئة والاحتواء أو بغية التوصل إلى حلول دبلوماسية لها أن تخفض منسوب الدماء والدمار ونزوح وارتحال الناس بحثا عن الملاذات الآمنة؟ بماذا تعللون وضعية «اللامبالاة» التي تسيطر على الرأي العام العالمي إزاء جرائم ضد الإنسانية يراكمها المستبدون واحتلال تستمر جرائمه دون هوادة وغارات جوية وصاروخية تتسع نطاقاتها وقوائم من الضحايا لا نتوقف يوميا عن إضافة اسماء وهويات جديدة إليها؟
فيما وراء اجترار الصياغات اللغوية المعهودة إن للتعبير عن التضامن أو لممارسة شيء من «تهوين مصاب الأصدقاء»، تفاوتت ملاحظات وآراء من طرقت أبوابهم بشدة.
منهم من ذهب إلى أن مجمل أحوال بلاد العرب تدلل على قرب لحظة النهاية للاستبداد وللحكم السلطوي، وسجل أن للحظة هذه هي لحظة إنسانية ومجتمعية قاسية تهدر بها الكثير من الدماء وتستتبع الكثير من الحروب والصراعات. ومنهم من لم يطق حديث نهاية الاستبداد والسلطوية، ودفع أن لحظة النهاية التي يقف العرب أمامها اليوم ترتبط بانهيار التنظيم الحداثي للمجتمع الذي ليس له إلا أن يستند إلى حكم القانون ومواطنة الحقوق المتساوية وانهيار الدول الوطنية التي أخفق حكامها في إنجاز ولو القليل من التطلعات المشروعة لمواطنيهم. وحين تكون لحظة النهاية الحاضرة في واجهة المشهد العربي الراهن هي لحظة انهيار المجتمع والدولة ولحظة تداعيات كارثية بها إلغاء عملي لقدرة المجتمعات على إدارة شؤونها بصورة سلمية وإلغاء لاحق لاحتكار مؤسسات الدول الوطنية لحق الاستخدام المشروع للعنف يسبقهما تماهي مأساوي لنخب الحكم مع عصابات الإرهاب والعنف والجريمة، فإن اختزال الأمر في حديث «الاستبداد والسلطوية» يغيب حقائق كبرى أبرزها كون التخلص من المستبدين والسلطويين الحاليين لا يمكن إلا أن يعقبه انتقال الحكم إلى آخرين يماثلونهم في الخطاب والفعل.
في المقابل، فرض الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات على آخرين تحذيري من أن الجرائم والمظالم والانتهاكات التي تعصف ببعض بلاد العرب حاليا ستنقلب في هذه البلاد إلى إبادة جماعية وفظائع ممنهجة وإشاعة للقتل، وحتما ستطول بالتصعيد الآخرين منا الذين إما ستتحول السجون وأماكن الاحتجاز والممارسات القمعية إلى حقائق وجودهم الرئيسية أو سترضخ أغلبياتهم إلى «طاعة الحكام» والعزوف عن المشاركة في الشأن العام إن خوفا وبحثا عن الأمان الشخصي والأسري أو حزنا ويأسا ـ وكان مصدر التحذير هنا وسياق الإحالة هو خبرة بعض مجتمعات أمريكا اللاتينية التي سطت عليها الديكتاتوريات العسكرية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، والفشل الروسي في الانتقال إلى الديمقراطية في التسعينيات والذي أعقبه إعادة التأسيس لسلطوية عنيفة أضحت تنتهك الحقوق والحريات مدعومة بشوفينية وطنية وهيستيريا تآمر الخارج أي الغرب على «روسيا العظيمة».
بينما شدد فريق آخر، تعويلا على الخبرات الناجحة جنوبا وشرقا لإعادة بناء مؤسسات الدول الوطنية بعد حقب الاستبداد وفي مراحل ما بعد الحروب الأهلية والصراعات المسلحة، على أن العرب لا خروج لهم من وضعية الانهيار الراهنة دون التركيز على الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وإدخال إصلاحات تدريجية في مجالات كمكافحة الفساد والشفافية والرقابة على شاغلي المناصب العامة والمؤسسات الرسمية وتمكين القطاع الخاص والمجتمع المدني من العمل بحرية واستقلالية في إطار من سيادة القانون. دون تجميل، قرر أتباع هذا الفريق أن الرومانسية تطغى على الاهتمام الأحادي بالديمقراطية وشروط التحول باتجاهها في بلاد العرب يبدو اليوم ترفا بالنظر إلى واقع الضعف المؤسسي للمجتمعات والدول الوطنية وبالإشارة أيضا إلى محدودية «الأدوار الطبيعية» للقطاع الخاص الذي تطور عربيا ريعيا ومعتمدا على الحكام ونخب الحكم وللمجتمع المدني الذي تشكلت الكثير من منظماته وجمعياته في غياب فعلي للاستقلالية وفي حالة تبعية داخلية (المنظمات غير الحكومية الحكومية) أو خارجية (الانسياق وراء أولويات المنظمات غير الحكومية العاملة دوليا) ـ أحدهم، وهو صحافي أوروبي عاش لسنوات طويلة في موسكو واسطنبول ولديه خلفية أكاديمية في شؤون شرق آسيا، اقتبس في حوارنا مقولة المستشار الألماني الأسبق هيلموت شيمت حين طلب منه تحديد مدى أهمية الانفتاح الديمقراطي للصين لشعبها فكان رده لا أهمية على الإطلاق!
أما فيما خص استباحة القوى الكبرى لبعض بلاد العرب عسكريا وتنوع مصادر الغارات الجوية والهجمات الصاروخية بعد أن ساد الانطباع أن خسائر الولايات المتحدة الأمريكية في «المستنقع العراقي» ستباعد بين الكبار وبين استخدام قوة السلاح في هذه المنطقة ذات الحسابات المركبة، فالتفسيرات المقدمة لم تغادر موقعين محددين؛ إما القراءة الأمريكية اللاتينية لحالتنا «كفناء خلفي» يوظف في الصراعات بين الغرب وبين روسيا التي تعوض قيادتها تدهور الأوضاع الاقتصادية وقسوة انتهاكات حقوق الإنسان داخليا بسياسة خارجية عنيفة وراغبة في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها أو القراءة الواقعية المؤلمة لنا والمستندة إلى أن الفراغ الإقليمي الذي يرتبه ضعف العرب يستدعي التدخل الخارجي بأدوات مختلفة ـ ولسان الحال هنا هو سؤال ولما لا؟ ثم وردت ملاحظة من متخصص في قضايا الحرب والسلم تستحق الإشارة، ومفادها أن الاستباحة العسكرية لبلاد العرب من قبل القوى الكبرى تورط في ذات السلوك العنيف بعض الأطراف الإقليمية إن تحت رايات الدول الوطنية والحكومات أو رايات الحركات المعتاشة على أنقاض الدول الوطنية أو على واقع ضعفها، وأن استخدام السلاح والاستسلام إلى أوهام حل الصراعات الداخلية أو الحروب الأهلية أو القضاء على الإرهاب عسكريا سيتحولان إلى نهج عام ويباعدان بين العرب وبين إدراك مركزية الحوار والتفاوض والتوافق واستعادة معاني العدل والحق والحرية والتنمية داخليا وإدراك مركزية الدبلوماسية إقليميا ودوليا لتجاوز الأزمات والابتعاد عن متواليات الانهيار.