فكرتان عسيرتان على معدة الشرق الأوسط الحديث والمعاصر، الفكرتان واردتان من الغرب، أولاهما صعبة الهضم والامتصاص والاستيعاب وهي الديمقراطيّة بالصورة التي تطوّرت، ثم تبلورت، ثم استقرّت بها في مجتمعات الغرب، أما أخراهما، فهي فكرة أن تكون فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، ثم ما أعقبها من ترجمة هذه الفكرة في إطار دولة تحت اسم نبي الله يعقوب عليه السلام (إسرائيل)، ثم اختيار هذه الدولة أن تكون دينيةً عنصريةً وقفًا وحكرًا وحصرًا على اليهود.
استنبات الديمقراطيّة الغربية في الشرق الأوسط واردٌ أن ينجح، لكن على مدى قرون متطاولة من الزمن تمامًا مثلما استغرقت ما يقرب من ألف عام حتى استوت، ثم نضجت، ثم اتخذت أشكالها التي عليها الآن. لكن استزراع إسرائيل – كدولة يهودية عنصرية وقفًا على دين بعينه – فهذا موضوع مختلف تمامًا، ففكرة الدولة الدينية العنصرية في حد ذاتها باتت خارج سياق الزمن، كما باتت ضد حركة التاريخ، ومن ثم فالأمر الطبيعي هو أنه لا يكون لها مكان في العالم المعاصر سواء في الشرق الأوسط، أو في أي ركن قريب أو بعيد من أركان الكون الأربعة.
انصهار ثقافي وحضاري
الشرق الأوسط – بطبيعة تكوينه العرقي والسلالي – هو بوتقة ضخمة التقت، ثم تصاهرت، ثم انصهر فيها كل ما عرف تاريخ الإنسان العاقل من سلالات وأعراق وعقائد ومذاهب وطوائف وأفكار وديانات، وكمْ عاش اليهود في كافة أركانه على فترات من الزمن، ولم يكن لشعوب الشرق الأوسط، وهم بطبيعتهم من أصول شتى، مشكلة في التعارف والتعايش مع اليهود مثل غيرهم.
فإلى عهد قريب تأسست فيه الدول القومية ذات الحدود المرسومة والأعلام المميزة والهويات الوطنية، كان الشرق الأوسط مرابع مفتوحة ومسارح طليقة أمام الحركة والتنقل والهجرة والدخول والخروج والتوطن، وحتى بعد أن تأسست دولة إسرائيل واختار كثيرون من يهود الشرق الأوسط الهجرة إليها، فإن شعوب المنطقة بقيت تعتز بالتراث اليهودي فيها كواحد من روافد تاريخها ومكون من مكونات سبيكتها الإنسانية والثقافية والحضارية .
اليهود – عبر التاريخ – لديهم ميزة عظمى، وهي في الوقت ذاته نقطة ضعفهم الكبرى، أما الميزة فهي القدرة الفائقة على الاحتفاظ بجوهر هويتهم لفترات بعيدة من الزمن حتى وهم أشتات متفرقون يعيشون بين شعوب وثقافات وتحت أنظمة حكم ترتاب فيهم ويرتابون فيها، احتفظ اليهود – بصلابة – بكونهم يهودًا، لكن رافق هذا الاحتفاظ وترتب عليه: سهولة تمييزِهم، ومن ثم سهولة عزلِهم، ثم تهميشِهم، ثم إقصائِهم في حالة صدور قرار أو رغبة في ذلك.
حافظ اليهود على كونهم يهودًا متفردين أو منعزلين حتى في بلدان انتصرت فيها فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون، وتحريم التمييز بين المواطنين على أسس دينية أو عرقية أو جهوية أو طائفية إلى آخره.
فكرة استزراع دولة إسرائيل في الشرق الأوسط – كدولة لليهود فقط – غير قابلة للنجاح لعدة أسباب:
1 – أولها أنها – بالبداهة – تعني أن أرض فلسطين لا تتسع لشعبين، ومن ثم لا تتسع لدولتين، ومن ثم يلزم لأحد الشعبين التخلص من الشعب الآخر، التخلص بالإخراج من الأرض ما دام ذلك ممكنًا، أو بالإبادة والدفن تحت الأرض ما دام ذلك ضرورة، الإخلاء هدف إستراتيجي مستقر منذ كانت الصهيونية مجرد فكرة حتى صارت دولة، وكل وسيلة يتحقق بها الإخلاء، فهي مشروعة بما في ذلك إفناء الشعب الفلسطيني، وإنهاء وجوده على أرضه بشتى السبل وعلى مراحل متعاقبة حتى تكتمل المهمة.
وهذا الهدف الإستراتيجي للصهيونية يقوم على افتراضين: الأول أن من الممكن – بالفعل – كسر إرادة الشعب الفلسطيني بالعنف والقوة حتى تصل مناعته إلى نقطة الصفر، ومن ثم تصل مقاومته إلى نهايتها، ومن ثم يتوقف عن أن يمثل أي خطر على دولة إسرائيل كدولة لليهود فقط على كامل أرض فلسطين. ثم الافتراض الثاني أن من الممكن تطويق الشعب الفلسطيني باتفاقات سلام ومصالحات مع أكبر عدد ممكن من دول الشرق الأوسط والعربية منها بالذات، وكلما تم إنجاز السلام والمصالحة والتطبيع مع المزيد من الدول العربية، خرجت هذه الدول من الصراع وتوثقت المودة بينها وبين إسرائيل، وفي النهاية يجد من بقي من الشعب الفلسطيني نفسه غريبًا في محيط تحالف فيه الأشقاء مع الأعداء.
2 – أما السبب الثاني لعدم نجاح استزراع دولة يهودية عنصرية في الشرق الأوسط المعاصر، فهي طبيعة هذا الإقليم منذ قامت فيه حضارات الشرق الأدنى القديم التي هي أول ما عرفت الإنسانية من حضارات، هذا إقليم حرب، هذا إقليم صراع، حروب وصراعات بين مختلف مكوناته ومركّباته، ثم حروب وصراعات داخل كل مكون وبين عناصر كل مركب، فحتى يومنا هذا لا تزال أقدم حضارتين في وادي النيل كما في فارس وبين النهرين، لا تزال في أذهان صناع السياسات – بوعي أو بغير وعي – أن قوات تحتمس الثالث عبر الفرات، أو أن جيوش قمبيز استولت على مصر، وسوف يظل في وعي أو لا وعي المصريين إلى الأبد أن أعظم المخاطر وردت إليهم من الشمال الشرقي.
إقليم لم يعرف السلام
هذا الوعي قائم وحي وحاضر رغم أمرين: رغم اتفاقات السلام مع إسرائيل، ورغم أن المخاطر – في الواقع – تحيط بمصر من كل الأركان دون استثناء، إذ يظل خطر الشمال الشرقي له الأولوية حتى مع فداحة المخاطر القادمة من الجنوب، وعند منابع النيل على وجه التحديد.
من مطلع القرن الخامس عشر حتى مطلع القرن السادس عشر كانت القوى الإسلامية الكبرى في الإقليم في حروب عنيفة، حروب المماليك والعثمانيين وهم مسلمون سنة، حروب الصفويين والعثمانيين وهي أساس الانقسام الكامن تحت جلد الشرق الأوسط المعاصر بين طموحات السنة والشيعة، حتى المغول والتتار بعد أن اكتسحوا الشرق الأوسط حتى دمروا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية وأعدموا الخليفة 1258م، عادوا من جديد عند عتبات القرن الخامس عشر 1400 م، وما بعدها، عادوا بعد أن دخلوا في الإسلام وصاروا مسلمين، عادوا تحت قيادة تيمورلنك وهو مسلم ليحارب الجميع من فرس وعثمانيين ومماليك.
هذا إقليم لم يعرف السلام مع نفسه، ومن المستحيل أن تجد إسرائيل فيه سلامًا حتى لو سالمها الحكام، ومن المستحيل أن تجد فيه الأمان حتى لو ملكت من السلاح ما يكفي لتدمير الشرق الأوسط على رؤوس أهله عدة مرات.
3 – ثم السبب الأخير لعدم نجاح استزراع دولة إسرائيل كدولة يهودية عنصرية في الشرق الأوسط هو أنها – كفكرة ثم كدولة – من ثمرات الشرق الأوسط الأوروبي، ثم الأميركي، الشرق الأوسط الأوروبي الذي تأسس على أنقاض الشرق الأوسط العثماني الذي وفّر الحماية لهذا الإقليم قريبًا من ثلاثة قرون، مثلما وفّر الشرق الأوسط المملوكي حماية مماثلة ولفترة مماثلة، بحيث استعصى وامتنع هذا الإقليم على الغزو الأوروبي قريبًا من ستة قرون ما بين حملة لويس التاسع 1250م، وغزوة نابليون الأول 1798م.
ثم سقطت مناعة الإقليم على مراحل، هي ذاتها مراحل سقوط المناعة العثمانية، فسقط الإقليم، وبالتحديد سقطت فلسطين يوم قرر العثمانيون الانسحاب دون قتال من القدس في الحرب العالمية الأولى، ثم ما أعقب ذلك من سقوط الدولة العثمانية من المشهد السياسي إلى الأبد، ليحل محلها الشرق الأوسط الأوروبي الذي تكفل بما يلي:
الوعد بوطن قومي لليهود في فلسطين، ثم احتلال فلسطين بالقوة، ثم وضعها تحت الانتداب البريطاني، ثم تأسيس حكومة إنجليزية فيها، وكان أول حاكم بريطاني لفلسطين يهوديًا صهيونيًا ( هربرت صمويل 1870 – 1963م) من أكفأ العناصر في نخبة الحكم البريطاني، ثم السماح بتدفق الهجرة اليهودية، ثم السماح بتسليح اليهود في منظمات منها تكون جيش الدفاع الإسرائيلي بعد ذلك، ثم إنهاء الانتداب والانسحاب وترك عرب فلسطين يواجهون مصيرهم المحتوم، إما الهجرة وترك الأرض والديار، وإما القتل والإبادة، إما لاجئين وإما قتلى، ولا خيارَ ثالثًا لهم.