كما كان متوقعًا، أنفذت إيران تهديدها لدولة الاحتلال بضربة صاروخية؛ ردًا على استهداف الأخيرة مبنًى تابعًا لسفارتها في دمشق قبل أيام، ذهب ضحيته عدد من قياداتها العسكرية، الأمر الذي وضعته طهران في إطار الاستهداف المباشر لأراضٍ إيرانية (بسبب رمزية السفارة)، وتوعّدت بالرد عليه. وإذا كان ثمة زوايا عديدة لتقييم الحدث كمتغير مهم في المنطقة، فإن علاقته بالعدوان على غزة – تأثرًا وتأثيرًا – تأتي في مقدمة هذه الزوايا في المرحلة الراهنة.
الرد الإيراني
ثمة تباين كبير في توصيف ما حصل، وكذلك في تقييم مظاهره ونتائجه بين إيران من جهة والاحتلال من جهة ثانية، وينسحب ذلك على المتابعين والباحثين، ويشمل ذلك عدد المسيّرات والصواريخ المستخدمة، وعدد ما وصل منها بعد تخطّي دفاعات الاحتلال ومن دعمه، ومدى الأضرار المباشرة للقصف، فضلًا عن الآثار غير المباشرة، ويشمل ذلك أيضًا معرفة موعد الرد ونوعيته وحدوده، وربما تفاصيل أخرى متعلقة به، والأسلحة المستخدمة، وغير ذلك الكثير.
إلا أن مما لا يختلف عليه الكثيرون، أن إيران لم تكتفِ بسردية "الصمت الإستراتيجي" هذه المرة، بل أنفذت تهديدها بالرد، وأن الرد كان مركّبًا من الناحية الجغرافية، إذ شاركت ببعض تفاصيله أطراف أخرى غير إيران، وعسكريًا من حيث الأسلحة المستخدمة، وأنها المرة الأولى التي تستهدف فيها طهران بشكل رسمي ومعلن عمق الأراضي "الإسرائيلية"، وليس عبر الأطراف أو الأذرع المحسوبة عليها، وأن الرد كان محددًا ومحدودًا في ظل سعي الأخيرة لئلا يتسبب بتصعيد كبير، أو اندلاع حرب موسعة قد تضعها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وليس فقط دولة الاحتلال.
تشرين الأول، صفحة جديدة في المنطقة، فتحت بدورها البابَ على تطورات متسارعة – مقصودة أو غير مقصودة – يبني بعضها على بعض؛ لترسم وجهًا جديدًا للمنطقة بإرادة الدول والقوى المنخرطة أو رغمًا عنها أو عن بعضها.
إن المنطقة بعد "طوفان الأقصى" ليست كما قبلها، ولن تعود على الأغلب لما كانت عليه، فقد أسست المعركة لمرحلة جديدة يسعى مختلف الأطراف الإقليمية للتكيف معها طوعًا أو كرهًا، وما زالت تأثيرات المعركة المنكشفة حتى اللحظة أقل بكثير مما سيتّضح لاحقًا حين تتهيأ ظروفه.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
لولا معركة "طوفان الأقصى"، وما تبعها من تطورات منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أزالت الكثير من هالة القوة حول الاحتلال، وكسرت هيبته، وكشفت بعض ثغراته وفتحت الباب أمام معادلات جديدة في التعامل معه.
هذا، مع عدم إغفال أن الاحتلال ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية، ينظران للفعل الإيراني من زاوية الحرب في غزة، إذ طالما كان لطهران سهم مهم في مراكمة القوة في القطاع، كما كان لعدد من القوى المحسوبة عليها في كل من لبنان واليمن والعراق، مساهمات في هذه الحرب إسنادًا لغزة، فضلًا عن أن الخطاب المؤسس لمعركة "طوفان" الأقصى في الأساس كان يتحدث عن حرب شاملة وفق منطق "وحدة الساحات".
لكن، وحتى بعيدًا عن السياق السابق للعلاقة بين إيران وقوى المقاومة الفلسطينية وتحديدًا حماس، وإضافة لتأثير غزة الواضح – من خلال معركة "طوفان الأقصى" وتداعياتها – على معادلات الردع بين إيران ودولة الاحتلال، تبدو غزة في موقع التأثر كذلك بالرد وتداعياته، بشكل مباشر أو غير مباشر.
في المدى المباشر، كان ملاحظًا أن العمليات العسكرية "الإسرائيلية" في قطاع غزة جوًا وبحرًا تراجعت وانحسرت أضرارها في تلك الليلة، كما كان واضحًا سعي نتنياهو للاستفادة من الحدث لاستعادة فكرة المظلومية والدعم الغربي، وتحصيل مكاسب من واشنطن، لكن هذه التأثيرات – الإيجابية والسلبية – سياقية وظرفية ومؤقتة.
على المدى البعيد، لا يمكن الجزم باتّجاه وحجم تأثير الحدث في العدوان "الإسرائيلي" على غزة بشكل خاص، والقضية الفلسطينية في العموم، إذا ما اتجهت الأمور للتصعيد الموسع، أو الحرب الشاملة، فذلك مرهون بنتائج هذه المواجهة المحتملة، وتداعياتها على الأطراف المنخرطة فيها، وعلى المنطقة ككلّ.
وعليه، فإنّ سيناريو استمرار الاستهداف، والاستهداف المقابل، يمكن أن يفيد غزة – مقاومة وشعبًا – أو يضرّها حسب مآلات هذا السيناريو في نهاية المطاف، وكذلك حسب مدته وسقفه والأطراف المنخرطة به… إلخ.
لكن، في المقابل، فإن اكتفاء دولة الاحتلال بتلقّي الرد الإيراني وعدم الرد عليه، رغم محدودية آثاره المادية عليها، سيعني أن التأثير على غزة سيكون محدودًا وضئيلًا؛ بمعنى استمرار الحرب البرية "الإسرائيلية"، بما في ذلك احتمالات دخول رفح، إلا أن ذلك يبقى خيارًا غير مرجح بكل الأحوال.
الاحتمال الأرجح، هو استفادة قطاع غزة من الرد الإيراني بشكل غير مباشر. ذلك أن ما حصل، مع احتمالات الرد "الإسرائيلي"، وسيناريو التصعيد المتدرج أو المنفلت، يعني أن احتمالات خروج الأمور عن السيطرة بالكامل، وتحولها لحرب إقليمية موسعة أو مواجهة شاملة، تتعاظم مع الوقت، وتصبح راجحة، وهو ما سيعزز مساعي الاحتواء وضبط الأمور، وبالتالي دعم جهود وقف الحرب على غزة؛ تجنبًا للسيناريو الذي لا تريده واشنطن، على الأقل في المرحلة الحالية.