امتداداً لحرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها الكيان الصهيوني المحتل على أبناء شعبنا، قام باغتيال ثلاثةٍ من أبناء القائد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس وأربعةٍ من أحفاده، بينما كانوا في طريقهم إلى مخيم الشاطئ لتهنئة أقربائهم بمناسبة العيد، ليلحقوا، كما أخبرنا، بستين آخرين من آل هنية ارتقوا شهداء. على الرغم من كوننا نتفق معه بأن أبناءه ليسوا أعز ولا أغلى من سائر أفراد وأسر الشعب الفلسطيني، إلا أن هذه الجريمة البشعة في أول أيام عيد الفطر، بطبيعة الأمور وقوة الأعراف السائدة، لم تزد الرأي العام العالمي، المُستنفر للغاية من الناحية الفعلية، إلا صدمةً وذهولاً وفاجعةً.
لم يحن الوقت بعد لتقييم هذه الحرب تقييماً نهائياً، وإني لأظن أن ذلك الوقت لن يأتي، فهي كعملٍ تاريخيٍ جللٍ وضخم، بل مؤسس، تمثل انعطافاً خطيراً وفائقاً سنظل طويلاً نحلل تداعياته؛ إلا أننا بعد مرور قرابة الستة أشهر، وهذا الكم من الشهداء والمصابين والدمار، يتعين علينا أن نتناول، وأن نؤكد ما نراها أهم النتائج والمستجدات حتى الآن.
أولاً، يأتي استشهاد أفراد أسرة هنية السبعة ليضع حداً ويدحض المحاولات الدائمة والخبيثة، لتقويض الدعم للمقاومة بادعاء أن قيادتها يقدمون أبناء الناس العاديين قرباناً ووقوداً للحرب لخدمة أغراضهم السياسية، ولا يكترثون بمصيرهم لأنهم بمعزلٍ ومنأى هم وأبناؤهم، ولا أرى أن هناك دليلاً أبلغ وأكثر حجيةً من هذا لإنهاء هذا العبث السخيف والبذيء.
ثانياً، لقد نسف السابع من أكتوبر من الناحية الفعلية كماً هائلاً ومؤسساً من القناعات، أو ما كان يُنظر إليها على أنها ثوابت رُوجت وأسست لكل الترتيبات والتنازلات في حقيقة الأمر التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه؛ على رأسها منعة وكفاءة الآلة العسكرية الإسرائيلية، ودراية أجهزة استخباره التامة، ما تسبب في هز صورة إسرائيل، لا أمام العرب فحسب، بل وهو الأهم ربما، أمام الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي طالما راهنت واستثمرت في الكيان الصهيوني، كحصن متقدم لرأس المال الغربي.
مشكلة الشعب الفلسطيني الأساسية الآن تكمن في غياب الحاضنة الإقليمية، حيث الأنظمة مهزومة ومنكفئة وماضيةٌ في مشاريع التطبيع
لقد أثبت السابع من أكتوبر ومجرى الحرب حتى الآن للغرب، كم كانت النظرة المتعالية، العنصرية حتى النخاع، للعرب والفلسطينيين تحديداً خاطئة، فهم قادرون لا على الصمود والتضحية فحسب، بل واجتراح المعجزات. لقد كانت كل ترتيبات التطبيع في المنطقة قائمة ضمناً، ومن الناحية الفعلية، على تجاهل الحق الفلسطيني، بل ربما الوجود الفلسطيني من الأساس، كان الفلسطينيون يُنظر إليهم أو يتم التعامل معهم ككمٍ مُهمل، مفعول به، مهزومون ليس أمامهم خيارات، إلا أن هذه الحرب أثبتت أنهم لم يسلِّموا، ولم يقبلوا الهزيمة والأهم لم يستبطونها، وأن خيار المقاومة والصمود هو خيارهم. لذا، وكنتيجةٍ ثالثة، لقد ضربوا كل ترتيبات التطبيع التي كانت ماضيةً ضربة مُوجعةً كاسحة، ولست أعلم أو أتصور كم سيلزم من الوقت لترميمها واستئنافها، وإن كنت أجزم بأن الأنظمة العربية ستسعى لا محالة لإنجاز ذلك متى سكت إطلاق الرصاص، انطلاقاً من مصالحها المتماهية والمراهنة على الكيان الصهيوني.
رابعاً، كأي محنةٍ وصراعٍ وجودي، تبرز السمات الأوضح والوجه الحقيقي، تسقط الأصباغ التي تجمله وتميع تقاسيمه؛ هكذا هي هذه الحرب التي كشفت ففضحت طبيعة الكيان الصهيوني أمام العالم والغرب في المقام الأول: كيان فصلٍ عنصري رجعي استيطاني همجي بربري متوحش، لا قيمة لديه للحياة البشرية ما لم تكن لأحد أفراد القبيلة، هو كيان بالفعل يمثل امتداداً لا للغرب، بل رأس المال الغربي بصفاته الأحط والأكثر بدائيةً، وكلما أوغلت آلته العسكرية في دمويتها لاستعادة الهيبة، وثقة الغرب لم تأتِ إلا بنتيجة عكسية، تتمثل في المزيد من الفضح ومن ثم الرفض والغضب والقرف والاشمئزاز الأخلاقيين من شعوب العالم، ومن جملتها، بل ربما على رأسها، الشعوب الغربية.
خامساً، لقد بات واضحاً أن الأرجح كون إسرائيل لا ينتظرها أي نصرٍ نهائي حاسم في نهاية نفق الدمار هذا، قد تقتل عشرات الآلاف، قد تدمر غزة برمتها، قد تهجر أهلها، إلا أن شيئاً من هذا لن يرمم صورتها ولن يعيد لها القبول الذي فقدته في هذه الحرب.
أزعم أيضاً أنني لست ممن يحكمون بالأماني أو الهوى، إلا أن الأكيد أن الانتصار يعني التسليم ورضوخ الإرادة وهو ما لم يُبدِ الفلسطينيون أي مؤشرٍ على الاستعداد له، بالإضافة إلى هذا، فما يثير جنون الإسرائيليين وفزعهم هو فقدان أي مقدرةٍ على ردع الفلسطينيين، الذين لم يعد الموت أو الخوف منه يمثلان أي شيءٍ بالنسبة لهم. لقد تطور الشعب الفلسطيني وصهره النضال والمعاناة اليومية، وصقلت معدنه محنته الفريدة فصار صلباً مدهشاً؛ مضى الزمن الذي كان مجرد الترويج لمذبحةٍ في قريةٍ أخرى يثير الرعب ويحمل الناس على الهروب. مشكلة الشعب الفلسطيني الأساسية الآن تكمن في غياب الحاضنة الإقليمية، حيث الأنظمة مهزومة ومنكفئة وماضيةٌ في مشاريع التطبيع. في يقيني أيضاً أن الأمور لن تعود كما كانت بعدها وأن كرة النار هذه وما سيترتب عليها من ترتيباتٍ جديدة، سيكون لها أثرٌ عميق في الأنظمة المحيطة، فقد أعادت القضية إلى صدارة المشهد وأججت الغضب في نفوس الشعوب العربية، وحفرت عميقاً معه الشعور بالإهانة، وكما أكد لنا الفلسطينيون فإن هذه المشاعر لا بد أن تنفجر في لحظةٍ ما جارفةً أمامها كل الحواجز.
لم يعد هناك ما هو قادرٌ على ردع أو إخافة الفلسطينيين فالفقدان والموت فقدا هذه القدرة، لذا فإن نضالهم وصمودهم سيكونان «الرافعة» والمُعلم لسائر الشعوب، والعربية خاصةً، التي هزمتها وأهانتها وباعتها هذه الأنظمة.
كاتب مصري