انتهت مقاومة الأمير عبد القادر للفرنسيين بالاستسلام، عقب 15 سنة من المعارك، الخاسرة منها والمُنتصرة، وبعدما أقرّ بسيّادة فرنسا على بلده ورضي بأن يحكم ثلثي مساحتها، ثم انسحب منها، فصار رمزاً من رموز تاريخنا. بينما مصالي الحاجّ حاز الامتياز بأن كان أوّل من طالب باستقلال الجزائر كاملة غير منقوصة، وهو الذي أخرج النّاس إلى الشّارع في 8 ماي 1945، وهو الذي أفضى نضاله إلى حرب تحرير انتهت بالاستقلال، فقد حُكم عليه بالنّسيان. الأوّل أقام دولة عمادها الدّين، وأسمى عملتها «المحمّدية» بينما الثّاني خطّط لدولة قوامها المواطن لا عقيدة لها سوى الجمع بين الجزائريين. فحفظت الذّاكرة سيرة الرّجل الأوّل ومحت الثّاني. الأمير الذي استفاد من رعاية فرنسية، في الثّلث الأخير من حياته، بينما الحاج عانى من السّجن والنّفي والتّهجير ونجا من الموت أكثر مرّة. فمن الأجدر منهما أن يصير واجهة للتّاريخ؟
نحن نعرف الإجابة، فقد عاد في الفترة الأخيرة الحديث عن فيلم سينمائي حول الأمير عبد القادر. حلقة جديدة من مسلسل لم ينته منذ سبعينات القرن الماضي. يقول بعض المُتفائلين إن الفيلم سيكون بمقاسات عالميّة، وسوف يعرض في صالات أجنبية. يا له من حلم جميل! لكن الحلم والواقع لا يتطابقان. فكلّ الاحتمالات تُفيد أن هذا الفيلم لن يرى النّور، وإن رأى النّور فسيكون فيلماً مجتزأ من سيرة عبد القادر، لا فيلما وفياً لتفاصيل حياته، التي تشوبها الكثير من نقاط الظلّ. وإن أردنا نقل سيرة الرّجل – بأمانة – إلى الشّاشة فسوف نفتح باباً من سوء الفهم، يجدر عدم الاقتراب منه. فحياة الأمير عبد القادر ليست وردية كما يظنّ البعض.
الأمير في مواجهة مرآته
مشروع فيلم عن الأمير عبد القادر يعود إلى نهاية السّتينيات من القرن الماضي، بعدما بادر الرّئيس الأسبق هواري بومدين إلى نقل رفاته من دمشق إلى الجزائر، في احتفالية مهيبة أراد منها استمالة قلوب الجزائريين، وخالف وصية الأمير نفسه الذي ودّ أن يرقد جنب معلّمه ابن عربي. منذ ذلك الحين والأسطوانة تدور من غير أن تتحوّل الفكرة إلى واقع، على الرّغم من الأموال الكبيرة التي صرفت. ففي كلّ مرّة يُلوّح أحدهم بحزمة أوراق ويقول إنّه قد كتب سيناريو الفيلم، وأكثر من مرّة سمعنا الجهات الوصية تلوّح بأن السيناريست سيكون من خارج البلد، ويتحدّثون عن مخرجين من أوربا أو أميركا، فكاد الأمر يتحوّل إلى نكتة، بعدما صار النّاس يحتشدون في السوشيال ميديا، وهم ينوّعون في أزيائهم ويقترحون أنفسهم من أجل تقمّص دور الأمير في هذا الفيلم المحتمل.
ومردّ تلكؤ السّلطة في الإسراع في الفيلم أن حياة عبد القادر عرفت طفرات وصراعات، يُفترض أن التّاريخ قد طواها ولا يصحّ العودة إليها. هل يُمكن أن نُصوّر الأمير عبد القادر لحظة زواجه من ابنة عمّه القاصر؟ سيكون الأمر محرجاً، لا سيما في صالات أجنبية. هل يمكن أن نصوّر خلافاته مع أحمد بن محمّد الشّريف، باي قسنطينة؟ هل يمكن أن نقول إنّه أسّس دولته على خلفية دينية؟ بينما الجزائر الحديثة قضت سنوات في محاربة الخلط بين الدّين والسّياسة؟ وبما أن الفيلم عن حياة الرّجل، فهل سوف يسرد ما جاء في اتّفاقية استسلامه؟ وهل سوف يذكر الامتيازات التي حظيّ بها من طرف الفرنسيين عقب الاستسلام؟ هل سوف يذكر الفيلم أن الأمير تنازل للمستعمرين عن نصيب من حصاد الأرض سنوات الحرب؟ هي أسئلة شائكة في حال انتقلت سيرة عبد القادر من الكتب إلى الشّاشة.
وما يؤسف له أن حياة الأمير عبد القادر حُصرت في شقّها العسكري، والنّصب المخلّد له في قلب الجزائر العاصمة شاهد على ذلك، وهو يُواجه البحر، ممتطياً حصاناً ومُشهراً سيفاً، وتغاضينا عن الشقّ الأهمّ من سيرة الرّجل، كواحد من الشّعراء المجدّدين في زمانه، وكذلك تنشئته المتصوّفة. وإذا أصرّ أصحاب الأمر على فيلم عن الأمير، فسيكون من المفيد التّركيز على هذين الجانبين، تفادياً لسوء الفهم في حال حصره في صورتي عسكري وسيّاسي وكفى.وما يؤسف له أن حياة الأمير عبد القادر حُصرت في شقّها العسكري، والنّصب المخلّد له في قلب الجزائر العاصمة شاهد على ذلك، وهو يُواجه البحر، ممتطياً حصاناً ومُشهراً سيفاً، وتغاضينا عن الشقّ الأهمّ من سيرة الرّجل، كواحد من الشّعراء المجدّدين في زمانه، وكذلك تنشئته المتصوّفة. وإذا أصرّ أصحاب الأمر على فيلم عن الأمير، فسيكون من المفيد التّركيز على هذين الجانبين، تفادياً لسوء الفهم في حال حصره في صورتي عسكري وسيّاسي وكفى.
الحاج لا يزال صامتاً
الغاية من فيلم عن الأمير عبد القادر هو التّذكير بروح المقاومة التي خاضها الشّعب ضد المُستعمر، ولا يوجد شخص يمثّل هذه الرّوح وله سيرة متناسقة أكثر من مصالي الحاج. لكن خلافاً بشأن «أبوة» حرب التّحرير وزعامتها، بينه وبين جبهة التّحرير، أودى به إلى سلّة المنسيات. بل صار اسماً غير مرغوب به في العلن. على الرّغم من أن جلّ مفجّري حرب التّحرير تتلمذوا على يد مصالي. تلقوا تنشئة سياسية على يديه، ثم مسحوا اسمه من الذّاكرة. بل إنّ هواري بومدين، الذي فكّر في فيلم عن الأمير، استلهم سياسته من دروس مصالي الحاجّ. فقانون «الأرض لمن يخدمها» وهو أشهر قوانينه، التي أممت حقول المعمّرين ووهبتها للفلاحين، مستوحى من سياسة مصالي نفسه، عندما كتب في منشور سيّاسي، عام 1927: «الأرض للفلاحين» وقصد منهم الأهالي.
مصالي الحاج الذي رسم العلم الجزائري كما نعرفه اليوم، في صحبة زوجته (مع أن البعض يرفض الإقرار بهذا الأمر) لم يكتف بمقاومة الاستعمار 15 سنة وكفى، بل دام نضاله أكثر من ثلاثة عقود، منع عنه النّشاط السّياسي لكنه قاوم وواصل، سُجن وأفرج عنه ثمّ عاد إلى الخطاب نفسه، دفاعاً عن قضية وطنه، لكن رفاقه القدامى أرادوا أن ينفردوا بأبوة حرب التّحرير ووجد نفسه، في الأخير، معزولاً، منبوذاً، وتنكّر له التّاريخ.
إن العودة إلى مصالي الحاج هي عودة إلى روح النّضال، فحرب التّحرير ترتّب عليها صفح عن الماضي، والاستقلال كان يفترض تجاوز الخلافات، وحصل فعلاً أن تجاوزنا الخلافات، عدا في مسألة مصالي الحاج، فقد ظلّ صامتاً، ويمنع الحديث عنه. ومن يكتب عنه من شأنه أن يُجابه رفضاً أو شتماً أو مساساً بحريته. إن احترام تاريخ الأمير عبد القادر يحتم علينا احترام الاختلاف. الأمير عبد القادر أراد أن يجمع الجزائريين، أن يوحّد بينهم، كيف ننجز فيلماً عنه ونحن نرفض بعضنا البعض؟
* كاتب جزائري