المقاومة الفلسطينية تحارب على جبهتين:
1- جبهة الصليبية الجديدة مُستترةً خلف قناع الصهيونية تطوي صدرها ويحرك وعيها ميراث ألف عام من الحروب الصليبية والاستعمارية وترتيبات الهيمنة والسيطرة.
2- ثم جبهة الإجماع المعاكس العربي – الإسلامي الذي تشكل في العقود الخمسة الأخيرة حول أمرَين كانا محظورين حتى نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين، أولهما: الاعتراف بإسرائيل، وثانيهما: الانضواء تحت هيمنة الأحلاف الغربية.
فعند منتصف القرن العشرين بات مؤكدًا أن الاستعمار القديم – أي الأوروبي – دخل طور النهاية، وأن الاستعمار الجديد – أي أميركا – سوف يرث تركته، وكان شرط التسليم والتسلم من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد له وجهان: مقاومة المد الشيوعي بالانخراط في الأحلاف الغربية، ثم الاعتراف بإسرائيل.
صمدت الحركة الوطنية التقليدية – بكل أطيافها – ضد الترتيبات بكاملها، كانت الحركة الوطنية تستمد شرعيتها وشرفها من مكافحة الاستعمار كله: قديمه وجديده، فلا فرق بين هيمنة أوروبية وأخرى أميركية.
انقلاب هادئ
ثم هذه الحركة رغم تناقض مصالحها مع المد الشيوعي، ورغم أنها كانت تراه خطرًا عليها كرأسمالية وبرجوازية صاعدة، فإنها لم تكن ترى في ذلك الخطر مبررًا كافيًا للانضواء تحت حماية الأحلاف الغربية التي لم تكن أكثر من تغيير قناع الاستعمار، كذلك فإن الحركة الوطنية التقليدية رفضت الاعتراف بإسرائيل بأي وجه من الوجوه.
المسار الإسرائيلي هو الحل الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
لقد جاء "طوفان" الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م مثل ليلة قدر خير من ألف شهر، لكن ما أعقبه من حرب إبادة كاملة وشاملة كشفت حقيقة ما قد جرى من تطويع وترويض للعالمين العربي – الإسلامي في أنفاق الاعتراف والأحلاف على مدى خمسين عامًا.
بينما بقيت إسرائيل ترجمة صادقة أمينة للصليبية الجديدة، مجرد واجهة صهيونية، يحتشد من أمامها، ويحتشد من خلفها، ويحتشد عن يمينها، ويحتشد عن شمالها وعي وروح وهمة وحقد وغلّ وسموم ألف عام من عدوان الغرب على الشرق الإسلامي تحت مسميات شتى مختلفة بينما جوهرها واحد.
أطماع واستخفاف
وبينما احتشد الغرب بكل قوته عن يمين الصهيونية وشمالها ومن أمامها ومن خلفها، حدث العكس والنقيض تمامًا في حالة المقاومة الفلسطينية، انفضّ الأشقاء عنها، انفضّ عنها العرب، انفض عنها المسلمون، انفضوا عنها من كل الجهات، انفضوا عنها في السر والعلن.
إعلان
هو انفضاضٌ كاملٌ، يقابله التزام كامل بأمن إسرائيل والتزام كامل بالانضواء تحت هيمنة الغرب، التزام لا فكاك منه سواء كانت تفرضه نصوص تعاقدات ملزمة أو تفرضه موازين الأمر الواقع.
في هذه الخمسين عامًا الأخيرة، تغيرنا من النقيض إلى النقيض، تغيرنا إلى الأسوأ، لكن لم تتغير إسرائيل، ولم يتغير الغرب، بل ازدادت أطماع إسرائيل وجرأتها علينا، وزاد استخفاف الغرب بنا واستهانته بردود فعلنا.
في مثل هذه اللحظة تقف المقاومة مفردة وحيدة، الأقربون من عرب ومسلمين ليسوا معها، والأبعدون من أعدائنا في كل العصور يحتشدون ضدها. هذه لحظةٌ حاسمة، كاشفة لما هو قائم – فلم يعد مجهولًا ولا خبيئًا – منشئة لما هو قادم، وهو مجهول أكثره.
هذه لحظة من النوع الذي يصعب أن يُطوى ويمر، والأرجح أنها سوف تفتح بابًا تزدحم على عتباته الأسئلة الوجودية الكبرى. أسئلة حول وجودنا كأمة، وأسئلة حول وجودنا كدول وشعوب، أسئلة حول وجودنا كمِلّة وحضارة وثقافة، وأسئلة حول وجودنا كشركاء أو كخاضعين لحضارة غربية قاهرة ظافرة.
أسئلة قلقة مقلقة لا يهرب منها فرد ولا مجموع، أسئلة تستحضر التاريخ وتستبصر المستقبل .