تبدأ العلاقة بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق وواجبات ويندرج ضمن هذا المفهوم، الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات، فالمواطنة تضفي على المواطن حقوقاً سياسية وأخرى قانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية؛ لكن الواقع الحالي يعاني من أزمة القيم وتبدل السلم القيمي وصراع الحضارة، نتج عن ذلك اضطراب معايير "القيم والمواطنة" الإنسانية وقصور في المرجعية التي نحتكم إليها لتقدير جهود الإنسان ومسئولياته في العالم الذي يعيش فيه.
الأمر الذي يشير في كليته إلى صعوبة وضوح الغايات النهائية التي تتجه إليها الحضارة العالمية المعاصرة، وبرغم من ذلك فالإنسانية اليوم قادرة على مواجهة التحدي من أجل بناء عالم أكثر إنسانية وأكثر عدلا وسلاماً، عالم تسود فيه ثقافة السلام وقيم العدل والتسامح وممارسة الحرية دون خوف مع الالتزام بالمحافظة على حريات الأخرين ومواردهم الطبيعة بكوكب الأرض حافظاً على الأجيال القادمة وحقهم في حياة كريمة وبحثا عن القيمة المضافة إلى ميراث الحضارة الإنسانية، وهذا مشروط بفهم قضايا المواطنة العالمية بصورة عميقة.
وفى ضوء التطورات التي تحدث بالعالم يلاحظ أنه قد زاد الوعي والاهتمام بالمشكلات البيئية العالمية، كما زاد الاهتمام بحقوق الإنسان، والتطور التكنولوجي وسهولة الاتصالات حول العالم، والتوسع الاقتصادي العالمي، ونمو التكتلات الاقتصادية، وغيرها من التطورات العالمية التي جعلت المواطنة العالمية ضرورة ماسة لتبنيها وأكسباها ومن ثم تنميتها لدى الأفراد.
كما أن البعد العالمي للمواطنة بات من الأمور الحتمية، وبدأت المسافات تتلاشى بين الدول جغرافيا وثقافيا؛ حيث إن المواطنة العالمية تنظر إلى كوكب الأرض باعتباره وطنا للجميع، ينبغي المحافظة عليه وصون موارده وتتلاشي معها الحدود، وتنظر لجميع البشر باعتبارهم أسرة واحدة الأساس بينهم الاحترام، والتعايش بسلام في إطار من التسامح والتفاهم واحترام الخصوصيات الثقافية والهوية والقومية لكل شعب؛ وهذا فرض بجانب التطورات والمشكلات العالمية ممارسة نوع جديد من المواطنة، تربط بين المحلية والعالمية، وهو المواطنة العالمية.
ونتيجة للتحديات المعاصرة محلياً وعالمياً وبعض النتائج السلبية التي نجمت عنها في جميع ميادين الحياة، وأصبح واضحاً بأن الحل إيجاد صيغة للتعاون والتفاهم بين الأمم والشعوب حول العالم في ظل ما يسود العالم من انتهاكات لحقوق الإنسان وأوجه عدم المساواة والفقر وهذا ما يمثل تهديداً للسلام والاستدامة، ونتيجة لهذه التحديات التي يواجهها العالم تمت الدعوة عالمياً لتمكين المتعلّمين أياً كانت أعمارهم من فهم أن هذه التحديات إنما تتسم بطابع عالمي، وليست مجرد قضايا محلية، وأن يقوموا بالترويج على نحو فعال لإرساء أسس مجتمعات أكثر سلاماً، وتسامحاً، وشمولية، وأمناً، واستدامة.
وبشكل واضح فإن المواطنة العالمية لا تقوم فكرتها على أن يطبع الجميع بطابع واحد، ولكن على أساس من التنوع الذي يمكن معه التعارف والتألف بين الأفراد بالمجتمع العالمي، والهدف من ذلك هو إعداد مواطن على درجة عالية من الفهم ووعي المدرك بمجريات الأمور على مستوى العالم، ويدرك أنه فرد يعيش في وطن كبير هو كوكب الأرض، وكل ما يصيبها من خلل أو دمار مردوده عليه والأجيال القادمة، وله دور ومسؤوليات عليه أن يتحملها تجاه كل ما يتعرض له العالم ويواجهه من تحديات ومشكلات في الميادين كافة.
وتكمن ماهية المواطنة العالمية في مجموعة القيم والتي منها الانتماء، والمشاركة الفعالة، والديمقراطية، والتسامح، والعدالة، الحرية، والتي تؤثر على شخصية الفرد فتجعله أكثر إيجابية في إدراك ماله من حقوق، وما عليه من واجبات نحو كل من الوطن الذي يعيش فيه، وأمته، والعالم بأسره، وتتمثل المواطنة العالمية في حرية العيش والفكر والعمل في نطاق الحدود العابرة للوطنية، ووضع قواعد تتحدى الحدود والسيادة الوطنية؛ حيث يمكن للأفراد اختيار مكان العمل والعيش دون النظر لموضوع الحدود بين الدول ودون ارتباط الإقامة بأرض محددة.
ولذا تهتم المواطنة العالمية بتأكيد الانتماء إلى مجتمع كبير يتسامى فوق الحدود القطرية أو القومية، تتجلى فيه الإنسانية المشتركة على أساس من الترابط بين الشعوب وبين المجتمع المحلى والعالمي، وتستند المواطنة العالمية إلى القيم العالمية المتمثلة في السلام العالمي والحرية والعدالة والمساواة وحقوق الأنسان والديمقراطية وعدم التمييز والتنوع، ويتم تضمين ذلك بالأنشطة والمواقف الحياتية التي تسعى إلى بناء أمم وعالم أفضل ومستقبل مشرق.
ويُعد تهيئة الفرد للمواطنة العالمية ضرورة ملحة، خاصة في ظل العولمة والتقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي جعلت العالم قرية كونية صغيرة، بعد إزالة الحدود الجغرافية بين بلدان العالم وما ترتب على ذلك من تغير وتحول وتبدل في السلم القيمي، وغياب التسامح والتصادم والصراع بين المجتمعات.
مما تطلب معه الاهتمام بتنمية المواطنة والشعور بالانتماء إلى مجتمع عالمي يتسامى فوق الحدود القطرية أو القومية، تتجلى فيه الإنسانية المشتركة ويقوم على الترابط بين الشعوب وبين المجتمعات المحلية والعالمية، والاهتمام بحقوق الأنسان والديمقراطية وعدم التمييز والتنوع، والاستدامة، ويترجم ذلك بالأنشطة والسلوكيات والمواقف المدنية التي تسعى إلى بناء عالم أفضل ومستقبل بناء مزهر.
وهذا ما أوجد ضرورة ملحة لتعزيز المواطنة العالمية لدى الأفراد بهدف الوعي بالتجارب الإنسانية المعاصرة، وكيفية التفاعل مع معطياتها، والالتزام بمبادئ التعاون الدولي والسلام العالمي العادل وحسن الجوار بين الدول، واحترام التنوع الإنساني بكل أشكاله، وتنمية الروح الوطنية والولاء للوطن والتسامي فوق الخلافات، وتعزيز الانتماء الوطني والعربي والإسلامي، والإنساني، والعالمي.
وإبراز أهمية التراث العالمي، والتنوع الثقافي والتواصل الحضاري والتعايش السلمي مع الأخرين، واحترام وتفعيل الاتفاقيات الدولية، ونشر وتطبيق مفاهيم السلام وحقوق الإنسان دون مواربة أو تحيز، ونبذ التمييز العنصري، ويتحقق ذلك بالمجتمعات من خلال إلمامنا بالقضايا المحيطة بنا محليا، وإقليميا، وعالميا؛ لذا يتحتم المشاركة بفاعلية في الأنشطة المجتمعية، والمشروعات المرتبطة بالمواطنة العالمية، مع الالتزام بقيم العدالة الاجتماعية والمساواة، واحترام التنوع بين البشر.
وبشكل عام ينبغي العمل على إعداد الأجيال حتى يصبحوا مدركين لواجباتهم وحقوقهم الوطنية ومتفاعلين مع مجتمعهم محققين لأهدافه وطموحاته في المجتمع العالمي، ويتأتى ذلك من برامج مقصودة تهدف إلى تنمية المواطنة العالمية وقضاياها المختلفة، ومع أدراك واقتناع بأن بيئة التعلم الرقمية تساعد في تقديم خبرات التعلم في صور عدة، كما تساعد في إدارة العملية التعليمية بفعالية؛ حيث يمكن تقديم التغذية الراجعة لجميع المتدربين ومراعاة الفروق الفردية، مما يزيد من دافعيتهم، وينمي مهاراتهم، ويعد ذلك التوظيف الأمثل لبيئة التعلم الرقمي.
وفي ضوء الثورة التكنولوجية والمعلوماتية فُتحت أبواب الاتصال على مصراعيها عبر تبادل المعلومات والأفكار، وانتشرت قيم الحداثة، واتسعت الفجوة الرقمية بين المجتمعات والأفراد، وفرضت الثورة الصناعية قلاعها على المجتمعات من خلال نمط الإنتاج المعتمد على المعرفة، وأصبح من غير الممكن لأي مجتمع أن يعزل نفسه ويتقوقع داخل ثقافته الخاصة.
والواقع أن قضية بث وتنمية الوعي بقيم المواطنة العالمية داخل فضاء المؤسسات التعليمية أصبحت قضية تستحق المراهنة عليها، لأن ممارسة القيم العالمية في المجتمع يجب أن تسبقها برامج هادفة من شأنها الإسهام في إيجاد مواطن يعي واجباته تجاه نفسه وتجاه الآخرين، كما يُفترض أن تُسهم في تكوين فرد متسم بروح نقدية إيجابية يستطيع من خلالها التفاعل مع محيطه المحلي والعالمي، وقادرًا على اتخاذ موقفًا من جميع أشكال التعصب والعنف والإرهاب، ومؤمنًا بأهمية الانفتاح على البعد الدولي وقيمه الكونية.
وتسهم المواطنة العالمية في توفير بعد عالمي للحصول على الهوية العالمية؛ حيث إن فكرتها الجوهرية تقوم على مواد الدستور الأخلاقي العالمي وتجعله مرجعية لها، وفيه أن البشر جميعاً لهم حقوق أساسية وعليهم واجبات نحو احترام وتعزيز تلك الحقوق التي يتوقف عليها مسار الحياة على الأرض، ومنها السلام العالمي والتنمية المستدامة بكل أبعادها ومن خلال ذلك؛ يوصف الإنسان الذي يستطيع التفاعل على مستوى عالمي مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته وموطنه وتزايد وعيه حول قضايا العالم بأنه مواطن عالمي.
ويترتب على ذلك انتقال هويته من منظور وطني محدود، إلى مفهوم وطني أشمل وأعم للعالم كله، مع اكتسابه العديد من المهارات كالمشاركة المدنية والفعالية السياسية، التعاطف الثقافي، واحترام التنوع، والقدرة على التوفيق بين الصراعات من خلال وسائل سلمية، بما في ذلك المناقشات والمفاوضات.
والقدرة على المشاركة بفاعلية في حل المشاكل التي تؤثرعلى جميع سكان العالم مثل ظواهر التغيرات المناخية والتهديدات الإرهابية، وزيادة الالتزام والترابط والعمل والتعاون والشراكة بين سكان وبلدان العالم المختلفة اعتماداً على احترام حقوق الإنسان وتطبيقا للمواطنة العالمية، والشركات علي كافة المستويات، مما يساعد علي تحقيق العدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص، وجودة الحياة، واستدامة الموارد، والقضاء علي الفجوات بين الدول وداخل الدولة الواحدة.