من خصائص حياتنا البشرية: التجدّد الدائم والمستمر، ففي كل يوم -تقريبًا- هناك جديد، سواء في حياة البشر، أو فيما ينتجه البشر من علوم واكتشافات، وكثير من هذه المُكتشفات تتشابك مع أسئلة الناس، وموقف الشرع من هذه المكتشفات، ومما جدَّ في حياة الناس ما عُرف بـ: الذكاء الاصطناعي، وقد بدأ السؤال عن مدى الاعتماد على الذكاء الاصطناعيّ في المجال الديني، وبخاصة في مجال الفتوى.
منذ عدة أيام سرت شائعة بأن وزارة الأوقاف المصرية ستعتمد الذكاء الاصطناعي في خُطبة الجمعة، مما حدا بمجلس الوزراء أن يصدر تكذيبًا لهذه الشائعة، وأنه لا نيّة للاتجاه لذلك، وأن الخطباء والأئمة سيظلون في أعمالهم.
كما أنّ أخبارًا أخرى نقلت عن دولة إيران، أنها تبحث استخدام الذكاء الاصطناعي لإصدار الفتاوى، وذلك نقلًا عن صحيفة الغارديان، بأن عددًا من المسؤولين الإيرانيين يتطلعون إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، من أجل العمل على إصدار الفتاوى، لتسريع كافة الأمور المتعلقة بأحكام الشريعة، حسب ما ذكر المصدر، ونقله عنه عدة جهات إخبارية.
وقد اعتمدت دولة الإمارات في سنة 2019م استخدام الذكاء الاصطناعي عبر إطلاق إمارة دبي منصة إفتاء إلكترونية تعتمد عليه، للإجابة عن الأسئلة الدينية من دون الحاجة إلى بشر.
وليس المقصود من تناولنا هنا الذكاء الاصطناعي والفتوى، بيان موقف الفقه من الذكاء الاصطناعي، بل النقاش هنا حول: هل سيقتحم الذكاء الاصطناعي مجال الفتوى، وما مدى دقة وصحة ما سيصدر عنه؟ وهل يصلح لمساحات محددة فقط، أم أنه يصلح للجميع؟ أم أنه لا يصلح لأي ميدان من ميادين الفتوى بإطلاق؟
بحسب قدرات كل شخص عن غيره، فضرورةُ مَن في أميركا غيرُ مَن في مصر، وضرورة الغني غير الفقير، وكل طبقة عن أخرى، فكيف يتم تكييف الضرورة هنا؟ ولو أن الإجابة كانت واحدة، لضاق الناس بذلك، ولعارض ذلك هدف الشرع وفلسفته في جعل الضرورة مدخلًا مهمًا للتيسير على الناس، كل حسب حالته.
وما يقال عن الضرورة يقال عن المرض، فإذا كان كل زمن يختلف فيه الألم والمرض عن الآخر، بحسب تقدم العلم والطب، فما يقال عن مريض أو مرض لا يقال عن آخر، لو كانا في زمن واحد، والطب كل يوم في تقدم جديد.
وإذا كنا نعيب على بعض المفتين أنهم لا يدركون هذه الفوارق، رغم أنهم بشر ينظرون ويطلعون، لكنهم يقلدون، ويخشون من إعمال عقولهم وأنظارهم في المسائل الفقهية، فما بالنا بالذكاء الاصطناعي، وهو في الغالب لا ينتج إلا حصيلة ما يدخل فيه من معلومات.
لسنا ضد الاستفادة من منجزات العقل البشري، لكن علينا ألا ننجرف وراءها في مجالات ربما يصيب في بعض ميادينها، ولا يصيب في غيرها، خاصة أنّ الأمر يتعلق بدين الناس وآخرتها.
فإذا كان المفتي البشري يصيبه القصور، وسوء التصور في بعض القضايا والفتاوى، فهو وارد بنسبة أكبر من الوسائل والتقنيات الحديثة، وقد لاحظنا ذلك في ميادين البحث، في المقارنة بين عمل بشري وعمل الكمبيوتر، كنموذج للمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، فكنت تجد أحيانًا مواضع لدى كتاب محمد فؤاد عبد الباقي، ولا تجدها في الموسوعات الموضوعة على أسطوانات مدمجة، أو عند البحث بمحرك البحث، فما بالنا لو تعلق البحث بالمعاني وليس الألفاظ، وهو مجال أوسع لا يقوى عليه سوى عقلية العالم المتمرس.
ولا يزال الناس إلى يومنا هذا، يستفتون في سؤال شرعي على مواقع الإفتاء، فيحيله الموقع إلكترونيًا على إجابة معينة، فيصرّ السائل على إرسال سؤاله، لأنه يرى خصوصية معينة، أو فرقًا محددًا في سؤاله يفترق عن الإجابات الأخرى، والمسألة تتعلق بعبادته، أو معاملته، أو الحلال والحرام وتحرّيه، أو طلاق وزواج، رغم أن الإجابة السابقة هي إجابة مُفْتٍ أو عالم عن سؤال قريب من سؤاله، لكنه يحتاج لإزالة الريبة من نفسه، بأنها الإجابة المتعلقة بسؤاله وحالته.