في مقال لافت لكاتب العمود الأشهر في الـ "نيويورك تايمز" توماس فريدمان حمل عنوان: "لماذا أوكرانيا وغزة أكبر مما يعتقد؟" حاول أن يقدم تفسيرًا لأهم صراعَين يدوران في العالم اليوم. يعاني هذا التفسير كأي تفسيرات كلية شاملة في زمن معقد ومتشظٍّ من الاختزالية والتبسيط. وتكمن أهميته في أمرَين:
الأول: أنه أحد الطرق التي يجري بها تأطير فهمنا للعالم بعد الحرب الباردة.
والثاني: أنه تسرب بالفعل لبعض صانعي القرار والنخب المثقفة في عالمنا العربي، لذا فهو يستخدم في الحشد والتعبئة خلف المواقف السياسية والفكرية والإعلامية؛ مما قد يكون له تداعيات مستقبلية خطيرة.
برغم هذا فإنه يظل في النهاية تصورًا يخلو من استدماج اهتمامات الناس في تذكير لنا بمقولة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". هو ينظر للعالم كأنه خواء لا توجد فيه شعوب متعددة لها تطلعاتها واهتماماتها المتباينة، وقيم تحركها أو تصبو إلى تحقيقها.
يقول السيد فريدمان: "هناك العديد من الطرق لتفسير أكبر صراعين في العالم اليوم، لكن اختصاري هو أن أوكرانيا تريد الانضمام إلى الغرب، وإسرائيلَ تريد الانضمام إلى الشرق العربي. روسيا – بمساعدة إيران- تحاول إيقاف الصراع الأول، وإيران وحماس تحاولان إيقاف الثاني".
يضع مقولته في سياق إستراتيجي أوسع لإعطاء دفعة قوية لها؛ فيقول: "إنها تعكس صراعًا جيوسياسيًا هائلًا بين شبكتين متعارضتين من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية حول قيمها ومصالحها التي ستهيمن على عالم ما بعد الحرب الباردة – في أعقاب حقبة السلام الأميركي/ العولمة المستقرة نسبيًا والتي بشّر بها سقوط برلين."
ينتقل فريدمان للحديث عن المنطقة والصراع الدائر بها الآن ليجعل منه -على حد قوله- صراعًا بين "شبكة المقاومة، المكرسة للحفاظ على الأنظمة المغلقة والاستبدادية، حيث يدفن الماضي المستقبلَ. وعلى الجانب الآخر، توجد شبكة الشمول، التي تحاول صياغة أنظمة أكثر انفتاحًا وترابطًا وتعددية؛ حيث يدفن المستقبلُ الماضي". ويكمل : "من سيفوز في الصراعات بين هاتَين الشبكتين سيحدد الكثير من الطابع السائد في حقبة ما بعد الحرب الباردة."
أميركا بالطبع زعيمة شبكة الإدماج، لكن موقع الصين بين هاتَين الشبكتين هام؛ لذا فلا ينسى أن يحدد دورها إذ يرى: "الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ تمتدّ بين الشبكتين، جنبًا إلى جنب مع الكثير مما أصبح يسمى الجنوب العالمي. قلوبهم، وفي كثير من الأحيان دفاتر جيوبهم، مع المقاومين، ولكن رؤوسهم مع الاندماجيين".
لكن ما هو الجوهر الفارق بين شبكتي المقاومة والشمول أو الإدماج؟ الأولى -وفق فريدمان- تقوم على القتال ووحدة ساحات المقاومة، وتقوم على معاداة إسرائيل والغرب بقيادة الولايات المتحدة.
أما شبكة الشمول، فتركز على "نسج الأسواق العالمية والإقليمية معًا- بدلًا من جبهات القتال- ومؤتمرات الأعمال، والمؤسسات الإخبارية، والنخب، وصناديق التحوط، وحاضنات التكنولوجيا، وطرق التجارة الرئيسية.
وأضاف: "تتجاوز الحدود التقليدية، وتخلق شبكة من الاعتماد الاقتصادي والتكنولوجي المتبادل الذي لديه القدرة على إعادة تعريف هياكل السلطة وخلق نماذج جديدة للاستقرار الإقليمي".
لماذا الحرب على غزة مهمة؟
هذا هو المشهد كما يقدمه لنا فريدمان ومن خلفه من شبكات وعلاقات ومصالح، ولكن دعنا نجمع بعض اللقطات الأخرى لنستكمل تعقيد المشهد وتركيبه:
اللقطة الأولى
أصدرت ناميبيا بيانًا يدعم قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، بما في ذلك انتقادات لاذعة لقرار ألمانيا التدخل دفاعًا عن إسرائيل.
يرى العديد من الدول- فيما يسمى بالجنوب العالمي- نفاقًا صارخًا في إدانة أوروبا والولايات المتحدة للاحتلال غير القانوني في أوكرانيا، بينما تستمران في دعم إسرائيل بقوة على الرغم من ارتفاع عدد القتلى في غزة، وعنف المستوطنين في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل.
رفعت جنوب أفريقيا قضية الإبادة الجماعية، بينما عارضتها الولايات المتحدة بشكل غريزي. أدى هذا الموقف إلى تضاؤل مصداقية الأخيرة بين الأفارقة، وتحطيم فكرة أن واشنطن تؤيد نظامًا قائمًا على القواعد.
قالت منظمة هيومن رايتس ووتش؛ إنها وثّقت جريمة استخدام التجويع كسلاح حرب في غزة خلال الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع. وفي تقريرها العالمي السنوي، سلطت المنظمة غير الحكومية الضوء على "المعايير المزدوجة" للحكومات التي صمتت عن "الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الإنساني الدولي في غزة.
اللقطة الثانية
جمعت اتفاقيات التطبيع التي يطلق عليها "أبراهام" بين أحد أكبر مصدري برامج التجسس في العالم وبين الدول التي تسيء استخدام الأسلحة السيبرانية وتقنيات المراقبة بشكل متصاعد.
من المرجح أن تؤدي هذه الغزوة المشتركة في مجال الأمن السيبراني إلى موجة جديدة من القمع العابر للحدود القائم على التكنولوجيا باسم الأمن القومي.