ومتواصل منذ سنوات طويلة. والأزمة استفحلت في المدّة الأخيرة؛ بسبب تواتر سنوات الجفاف، وبسبب الأزمة المالية للدولة التي أدّت إلى تقليص الواردات من الحبوب. ومشكل ممارسات الاحتكار والمضاربة التي ترتكبها شركات توريد وتصنيع الأعلاف مشكل حقيقي يتسبّب في ندرة الأعلاف وارتفاع أسعارها بشكل صاروخي، وينتج عنه ارتفاع كبير في تكلفة الإنتاج الحيواني، وتهديد خطير للثروة الحيوانية في البلاد. وليس المجال هنا لتعداد أسباب الأزمة واستتباعاتها، وإنما المجال لدراسة مدى جدوى الحل الذي اختارته السلطة التنفيذية للخروج من تلك الأزمة.
حلّ خاطئ لمشكل حقيقي
مشكل توفير الأعلاف لصالح مُربّي المواشي والأبقار مشكل حقيقي ومتواصل منذ سنوات طويلة. والأزمة استفحلت في المدّة الأخيرة؛ بسبب تواتر سنوات الجفاف، وبسبب الأزمة المالية للدولة التي أدّت إلى تقليص الواردات من الحبوب. ومشكل ممارسات الاحتكار والمضاربة التي ترتكبها شركات توريد وتصنيع الأعلاف مشكل حقيقي يتسبّب في ندرة الأعلاف وارتفاع أسعارها بشكل صاروخي، وينتج عنه ارتفاع كبير في تكلفة الإنتاج الحيواني، وتهديد خطير للثروة الحيوانية في البلاد. وليس المجال هنا لتعداد أسباب الأزمة واستتباعاتها، وإنما المجال لدراسة مدى جدوى الحل الذي اختارته السلطة التنفيذية للخروج من تلك الأزمة.
لا شك أن استفحال الأزمة خلال السنوات الأخيرة ناتجٌ عن غياب الإرادة والفعل والسياسات الاستباقية. وأنه من الضروري المبادرة بحلول فعالة للتصدي لها وإيجاد حلول لإنهاء الاحتكار، وتخفيض الأسعار ومنع التهريب.
فهل يكمن الحلّ في إحداث هيكل جديد في الدولة، كما قرّر رئيس الدولة؟
بالتأكيد لا! هذا القرار هو حل خاطئ لمشكل حقيقي.
الدولة لا تنقصها هياكل لإنجاز المهام الموكلة للديوان المحدث. وصلاحيات الهيكل الجديد موجودة أصلًا تحت إشراف مؤسّسات، مثل: ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى، وديوان الحبوب، وديوان الأراضي الدولية، والإدارة العامة للإنتاج الفلاحي، واللجنة الوطنية لمنظومة الأعلاف ومعاهد الدراسات وهياكل البحث بوزارة الفلاحة وغيرها من المؤسسات.
فما الدافع لإحداث هيكل جديد؟
عقلية قديمة تقاوم التغيير
إحداث هيكل للتصدّي لإشكال ما قرارٌ يعكس النظرة التقليدية للدولة المتكلّسة التي بقيت تفكّر وتتصرّف بعقلية ستّينيات القرن الماضي وترفض التطوّر وتقاوم التغيير.
أمام كل تحدٍّ جديد أو حاجة مستحدثة، يتوجّه العقل الباطني للدولة مباشرة إلى إحداث هيكل جديد للتصدّي للموضوع؛ لأن ذلك هو الحل الأسهل والأسرع نظريًا في الإنجاز، والذي يجنّب تحريك أو هزّ الهياكل المتراكمة بعضها فوق بعض وتغيير قواعد عملها وعاداتها المتوارثة.
هذه العقلية قادت إلى إرساء هيكلة متشعّبة جدًّا داخل الدولة التونسية تتضمّن ما لا يقل عن 220 منشأة ومؤسسة عمومية في جميع القطاعات، من منشآت ومؤسّسات عمومية لا تكتسي صبغة إدارية وشركات مملوكة كلّيًا للدولة وشركات فيها مساهمة بأكثر من 50% من رأسمالها من الدولة أو إحدى شراكاتها أو الجماعات المحلية، علاوة عن المؤسّسات ذات الصبغة الإدارية والمجامع المهنية وغيرها.
وينضاف إلى هذا النسيج المعقّد من المؤسسات هيكلةٌ متشعّبة من الإدارات العامة والهياكل داخل كل وزارة من الوزارات بشكل تراكمي فيه – أحيانًا كثيرة- تداخل في المسؤوليات، وتنازع في الصلاحيات، وتضخّم في البيروقراطية. من ذلك مثلًا وجود ما يقارب 150 إدارة عامة في وزارة الفلاحة حسب أحد الخبراء !!
عقلية قديمة تقاوم التغيير
إحداث هيكل للتصدّي لإشكال ما قرارٌ يعكس النظرة التقليدية للدولة المتكلّسة التي بقيت تفكّر وتتصرّف بعقلية ستّينيات القرن الماضي وترفض التطوّر وتقاوم التغيير.
أمام كل تحدٍّ جديد أو حاجة مستحدثة، يتوجّه العقل الباطني للدولة مباشرة إلى إحداث هيكل جديد للتصدّي للموضوع؛ لأن ذلك هو الحل الأسهل والأسرع نظريًا في الإنجاز، والذي يجنّب تحريك أو هزّ الهياكل المتراكمة بعضها فوق بعض وتغيير قواعد عملها وعاداتها المتوارثة.
هذه العقلية قادت إلى إرساء هيكلة متشعّبة جدًّا داخل الدولة التونسية تتضمّن ما لا يقل عن 220 منشأة ومؤسسة عمومية في جميع القطاعات، من منشآت ومؤسّسات عمومية لا تكتسي صبغة إدارية وشركات مملوكة كلّيًا للدولة وشركات فيها مساهمة بأكثر من 50% من رأسمالها من الدولة أو إحدى شراكاتها أو الجماعات المحلية، علاوة عن المؤسّسات ذات الصبغة الإدارية والمجامع المهنية وغيرها.
وينضاف إلى هذا النسيج المعقّد من المؤسسات هيكلةٌ متشعّبة من الإدارات العامة والهياكل داخل كل وزارة من الوزارات بشكل تراكمي فيه – أحيانًا كثيرة- تداخل في المسؤوليات، وتنازع في الصلاحيات، وتضخّم في البيروقراطية. من ذلك مثلًا وجود ما يقارب 150 إدارة عامة في وزارة الفلاحة حسب أحد الخبراء !!
وقد انبنى هذا النّسيج من الهياكل بطريقة تراكميّة منذ المرحلة الاستعمارية. وتكثّف إثر الاستقلال عند مرحلة تركيز مؤسَّسات الدولة وإطلاق المخططات التنموية المركزية لبرمجة وتنظيم الاستثمارات العمومية في مختلف القطاعات بغرض تحقيق النمو الاقتصادي، عبر دعم النشاطات المنتجة للثروة والقيمة المضافة والموفّرة لمواطن الشغل، وكذلك الحدّ من الفقر وتحسين مستوى المعيشة ودعم التوازن الجهوي. وتواصل ذلك النهج بشكل حثيث رغم انتقال الاقتصاد التونسي من التأميم (1956- 1961) إلى الاشتراكية (1961-1969)، إلى الليبرالية والانفتاح (1970-1982)، إلى الاصلاح الهيكلي المفروض خارجيًا (إثر أزمة الثمانينيات) إلى التحرير والاندماج في السوق الدولية (منذ التسعينيات).
ونتيجة لهذا التضخّم المؤسساتي، أصبحت الدولة في تونس كيانًا ضخمًا يزداد حجمًا بشكل متواصل، رغم أنه يقف على ساقَين ضعيفتَين. وتشعّبت مهامها لتتجاوز القطاعات الخِدمية والحيويّة لتصل إلى مجالات ومهام ستثير استغرابكم. حيث تحتكر الدولة توريد القهوة والشاي الأحمر والأخضر والأرز، والزيت النباتي، وتنتج الدُّخَان والنرجيلة، وتُسيّر الطرق السيّارة، وتحفر الآبار، وتصنع الإسمنت والكحول والورق، وتعبّئ السكّر في الأكياس، وتسيّر الرهانات الرياضية، وتنتج اللحوم وكتاكيت الدجاج، وتنظّم سباقات الخيل … ويُراد لها اليوم أن تُنتج العلف للمواشي والأبقار.
إحداثات اعتباطية أحيانًا
تحوّل إحداث المؤسسات والهياكل في بعض الأحيان إلى قرارات اعتباطية غير مدروسة، أو مقصودة بغرض تحصيل منافع شخصيّة لصاحب القرار، أو احتكار سوق معيّن في القطاعات التنافسية أو مكافأة أو ترضية شخص من المقرّبين لصاحب القرار وتمتيعه بمنصب وامتيازات وسيارة وظيفية وحظوة واعتبار.
وعلى سبيل المثال، سبق لنا أن خضنا معركة في البرلمان التونسي ضد قرار للحكومة في 2016 بإحداث مؤسّسة "ديوان الخدمات المدرسية" بشكل مستعجل وغير مبرّر ومخالف لتوجّه الدولة نحو اللامركزية. واعتبرنا أن الهدف الحقيقي وراء ذلك القرار كان توحيد صفقات تزويد المدارس والإعداديّات والثانويات في كل أرجاء البلاد بالمواد الغذائية وغيرها من الخدمات في صفقات مركزيّة كبرى، بعد أن كان التزويد محلّيًا وتحت إشراف مديري المؤسسات التعليمية، وذلك بغرض حصول مسؤولين كبار على عمولات من كبار المزودين. وتم تمرير الإحداث بالقوة، وتواترت بعدها الاتهامات بالفساد وبتدهور الخدمات المدرسية في مختلف جهات البلاد.