حظي الكيان الصهيونيّ بدعم أميركي غير مسبوق بعد هزيمته النكراء في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، واستمرّ هذا الدعم حتى الآن من خلال التأكيد على رفض وقف إطلاق النار والحق المزعوم للكيان في الدفاع عن نفسه!
غير أنّ فشل الكيان المتعاظم في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها من حربه على غزة، وهي القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى، مع استمرار الاستهداف المكثف للمدنيين ورفض الاحتلال قبول التصور الأميركي لليوم التالي للحرب، وضعَ مصالح واشنطن وعلاقاتها الدولية وإستراتيجيتها في المنطقة، على المحك، واستدعى الأثمان التي قد تدفعها واشنطن؛ بسبب انحيازها ودعمها الصارخ للكيان الصهيوني، خصوصًا إذا تسبب لها ذلك بأضرار على مصالحها الإستراتيجية، الأمر الذي قد يحفز خطوات ضغط أميركية على الموقف الإسرائيلي بما يؤثر على المدى القريب على نمط العلاقة التحالفيّة بين الطرفين، أو حتى المكانة الإستراتيجيّة للكيان في المنطقة.
اختلال مكانة وهزيمة
شكّل الكيان الصهيونيّ حصنًا متقدمًا للولايات المتحدة وللغرب في منطقتنا، وحظي بدعم ورعاية أميركية على وجه الخصوص للقيام بدور ضبط مسار المنطقة في الفلك الأميركي، كما عملت واشنطن على دمجه بالمنطقة العربية عن طريق اتفاقات السلام والتطبيع مع الدول العربية، وذلك بهدف إنهاء القضية الفلسطينية وتكريس الحل الإسرائيلي لها، والذي يقوم على أساس ضمّ الأراضي الفلسطينية، والتوسع بالاستيطان، وتهويد القدس، والحيلولة دون تشكيل كينونة فلسطينيّة.
وحينما قررت الولايات المتحدة التركيزَ على الصين وروسيا، والخروج من المنطقة، وجدت أن خير مَن يرعى مصالحها في المنطقة هو الكيان الصهيوني. ولذلك فقد عملت على إدماجه بالمنطقة ليس فقط باتفاقيات التطبيع التي أطلق عليها اتفاقيات أبراهام، وإنما أيضًا بإنشاء آلية لتحالف أمني مع دول المنطقة، بدءًا باجتماع العقبة الذي شاركت فيه دول التطبيع، وكان يهدف لتثبيت اعتماد هذه الدول على الحماية الإسرائيلية من التهديدات الخارجية، وعلى الأخص من إيران، بما يعني تكريس الاحتلال كدولة مركزية قائدة في المنطقة، وهو الأمر الذي يضمن حماية على المصالح الأميركية في المنطقة من أي تهديد، ويشكل حصنًا من إمكانات الاختراق الروسي والصيني لها.
سعت واشنطن بجولة بلينكن إلى انتشال الكيان من ورطته، ومحاولة استدراك التدهور في شعبية بايدن لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية نهاية العام، فضلًا عن التململ داخل الإدارة بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن للكيان، إضافة لبداية تفكك التحالف الغربي الداعم للكيان
وقد شكل "طوفان الأقصى" تهديدًا وجوديًا للكيان وألحق ضررًا كبيرًا باستقراره، لأنه خلخل عناصر ارتكازه العسكرية والأمنية وهي، اعتبار جيشه، الجيش الذي لا يقهر، كما كسر نظرية الردع الأمنية التي تباهت بها حكوماته.
وتضررت مكانة الكيان الإستراتيجية في المنطقة بعد أن أصبح غير قادر على حماية نفسه، فضلًا عن أن يحمي غيره، الأمر الذي شكل تهديدًا حقيقيًا لمصالح الولايات المتحدة.
ولذلك هُرعت الولايات المتحدة والغرب ليس لنجدته فقط، وإنما لحماية المصالح الأميركية والغربية أيضًا، لأن انكسار هذا الكيان وضياع هيبته هو خطر على هذه المصالح، فكان تأكيد واشنطن دائمًا على رفض وقف إطلاق النار حتى يتمكن الاحتلال من استعادة مكانته المهتزة.
كما شاركت إدارة بايدن في إدارة الحرب على غزة، ووافقت على أهداف خُطة الاحتلال العسكرية بالقضاء على حماس واستعادة الأسرى، ودعمته بكل الوسائل العسكرية، ووفرت له الغطاء السياسي في مجلس الأمن، رغم أنه كان واضحًا منذ البداية أنه لا يمكن هزيمة فكرة متجذرة وتنظيم شعبي له امتداداته في كل أنحاء العالم.
غير أن الأمور لم تجرِ كما اشتهت سفينة إسرائيل والولايات المتحدة، فقد واجه جيش الاحتلال مقاومة شرسة وعنيفة عرقلت تقدمه، وباعدت بينه وبين تحقيق أهدافه السياسية.
وأكد تقرير سري للاستخبارات الأميركية- صدر مؤخرًا، وكشفت عنه صحيفة وول ستريت جورنال- أنّ حركة حماس لا تزال تمتلك ذخائر تكفي لضرب إسرائيل لمدة أشهر قادمة، وأنّ هدف تدمير الحركة لم يتحقق، رغم الحملة الجوية والبرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة".
وزعم التقرير أيضًا أنّ جيش الاحتلال تمكن من القضاء على 20% إلى 30% من مقاومي حركة حماس، معتبرًا أن هذه الحصيلة (رغم أنها قد يكون مبالغًا فيها وتستند إلى مزاعم جيش الاحتلال) "لا ترقى حتى الآن إلى هدف إسرائيل المتمثل بتدمير الحركة"، وتظهر " قدرة حماس على الصمود بعد أشهر من الحرب التي دمرت مساحات واسعة من القطاع".
ورغم أن الإدارة الأميركية تتحاشى الحديث عن مواقفها غير المتوافقة مع الكيان حتى لا يظهر أنها تخذله وقت الحرب، كما تتحاشى الحديث عن تقييماتها لمجرى الحرب، فإن مسؤوليها يتحدثون للصحف الأميركية في حالة عدم التصريح بالاسم.
ومن هذه التقييمات، ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز بأن الإدارة الأميركية باتت مقتنعة بأن إسرائيل في مأزق إستراتيجي، وأن الكيان هو أبعد ما يكون عن إلحاق الهزيمة بحماس، مشيرة إلى أن الجزء الذي سيطرت عليه قوات الاحتلال في قطاع غزة هو أقل مما تصورته خطط المعركة، والتي تضمنت السيطرة على غزة وخان يونس ورفح بحلول أواخر ديسمبر/كانون الأول.
تصاعد حدة الخلافات
ومن خلفية هذه النتائج، كان لا بد للإدارة الأميركية من التدخل لمنع المأزق الإستراتيجي للاحتلال من التحول لهزيمة ثانية شبيهة بهزيمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولذلك جاءت جولة وزير الخارجية بلينكن التي بدأها بدول المنطقة قبل أن يزور الكيان، ثم تبعها مكالمة هاتفية مطولة لبايدن مع نتنياهو، أظهرت حدة الخلافات بين الطرفين.
وسعت واشنطن بتحركها هذا إلى انتشال الكيان من ورطته، ومحاولة استدراك التدهور في شعبية بايدن لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية نهاية العام، فضلًا عن التململ داخل الإدارة بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن للكيان، إضافة لبداية تفكك التحالف الغربي الداعم للكيان، ومطالبة عدد من دوله بوقف إطلاق النار على عكس رغبة واشنطن!
وواجه التحرك الأميركي عقبة كأْداء بسبب موقف نتنياهو المتشبث بالسلطة إلى ما لا نهاية، وحكومته التي يهيمن عليها المتطرفان سموتريتش وبن غفير اللذان يهددان باستمرار بإسقاط الحكومة إن قرر نتنياهو وقف الحرب أو القبول بحكم السلطة الفلسطينية للقطاع، أو القبول بالدولة الفلسطينية الشكلية والمنزوعة السلاح التي يطالب بها بايدن.