محاكمة إسرائيل وإدانة العالم

ثلاثاء, 01/23/2024 - 09:33

قيل وكُتب الكثير عن الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
بغض النظر عن الجدل القانوني الدقيق الذي يرافق الدعوى، وعن نجاح الدعوى في إدانة إسرائيل من عدمه، وبعيدا عن التفاصيل المتعلقة بما ترتكب إسرائيل من إجرام بحق سكان غزة وأرضها وعمرانها وهوائها، هناك الجانب الرمزي في الموضوع، وهو هام.
الرمزية تجعل الدعوى أبعد من غزة وأكبر من إسرائيل. في رمزيتها، الدعوى ليست ضد إسرائيل على وقائع محصورة في زمان ومكان محدَّدين. إنها محاكمة لفشل العالم الغربي في فرض القيم والمبادئ القانونية والأخلاقية والإنسانية التي لطالما تغنّى بها وحاول تلقينها للعالم وفرضها على الشعوب. فشلٌ عبر العالم وليس في غزة وحدها. هي أيضا دعوى لمحاكمة إخفاق الأمم المتحدة الفادح في نصرة شعب يتعرّض لمحرقة يتابعها العالم عبر البث المباشر، دون أن تتمكن من فعل الحد الأدنى، ودون أن تنجح حتى في إسماع صوتها.
خلال عقود طويلة استعمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة عصا الحقوق والحريات لتأديب أنظمة الحكم في الجزء الجنوبي من العالم وتهديدها وحتى ابتزازها. كان لهذا الغرب آنذاك بعض النفوذ الأخلاقي والسياسي لفرض ما يريد على الآخرين. كانت الأحكام الجاهزة وطريقة تشكيل العالم في معسكرين تشجع على الثقة في هذا الغرب. نجح الإعلام الغربي وماكينات الدعاية الجبارة أيضا في تسويق صورة إيجابية صعب على الآخرين الطعن فيها أو إيجاد صورة مثلها أو تنافسها. كانت منظومات الحكم الغربية تتوفر أيضا على الحد الأدنى من الحياء السياسي فتستمتع للرأي الآخر وتعمل بنصائح المجتمع المدني وتستجيب للضغط الاجتماعي الداخلي.
وظلت القناعة سائدة بأن الديمقراطية هي منارة التقدم الإنساني بكل أوجهه.
ثم بدأت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وزحف اليمين الشعبوي والحروب والكوارث الطبيعية، وبدأ معها يتكشف فشل هذا الغرب وعجزه عن الاستمرار في تبنّي الشعارات التي سعى طيلة عقود لفرضها على العالم.
كانت بداية انكشاف كأنه جليد يزول تدريجيا لتحل محله حقيقة ما كان يغطي. خلال السنوات الثلاثين الأخيرة خسر الغرب ما توهَّم أنه نجاح أخلاقي راكمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى قبلها. من المثير أن هذا الانكشاف بدأ يتوالى ويتراكم تدريجيا ضمن إيقاع معيّن كأنه بفعل فاعل، إلى أن وصلنا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا ومن بعده الحرب الإسرائيلية على غزة. كأن العناية الإلهية أرادت أن يكون غزو أوكرانيا وحرب غزة تتويجا لمسلسل الانكشاف، وأرادت للعالم أن يشاهد بالعين المجرّدة ويقارن بين اندفاع الغرب لنصرة «الحق» هناك وشلله عن مجرد قول كلمة الحق هنا.
هناك شعوب كثيرة عبر العالم تحلم بالانعتاق من الديكتاتورية ونيل قليل من الديمقراطية والحرية، لكن موجة التشاؤم العالمي تكبحها. ويكبحها أكثر ما تشاهد من تناقض الغرب حيال غزة وأوكرانيا.. تناقض يصعب بعده، وربما يستحيل، تشجيعها على الاستمرار في الدفاع عن طموحها. سيكون من السهل بعد اليوم أن تقنع إنسانا في الجزء الجنوبي من العالم بأن الجزء الشمالي ليس نموذجا يُحتذى. لهذا يسخر كثير من الناس اليوم في الهند وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من حال الولايات المتحدة وأوروبا، وهم مُحقّون.
لم يخسر الغرب رصيده الأخلاقي وثقة الآخر فيه خارجيا فقط. لقد خسر حتى داخليا، وما الانتخابات المثيرة للجدل التي توصل عنصريين وشعبويين وفوضويين إلى أعلى مواقع اتخاذ القرار في أوروبا والولايات المتحدة إلا تعبير عن ذلك. عن موت الثقة في السياسي التقليدي وما يمثله.. عن تيه وتشكيك في كل شيء. لا أجد قراءة لنتائج الانتخابات في الغرب إلا كونها تعبيرا عن كفر بالديمقراطية وما تحمله وتحيل إليه من قيم وانضباط.
فساد السياسيين في الغرب أصبح دارجا ولا يزعج أحدا. انبطاحهم لعتاة الديكتاتوريين في دول العالم الثالث لم يعد عيبا في نظرهم ونظر شعوبهم. قمع الحريات والأصوات المختلفة لم يعد سرا. التجسس على الناس ومراقبة حركاتهم وسكناتهم بتكنولوجيا شيطانية أصبح نشاطا يوميا يستنزف جهود مؤسسات الحكم ومواردها.
قمع المظاهرات الشعبية بالقوة أصبح هو الآخر رياضة قومية تمارسها حكومات دول أوروبية كبرى مثلما تفعل أيّ حكومة ديكتاتورية في إفريقيا أو آسيا (عنف الشرطة الفرنسية مع «أصحاب السترات الصفراء» نموذج صارخ).
لا أؤمن بأن هناك فرقا في كل ما سبق بين الصين وأيّ حكومة أوروبية أو إدارة أمريكية (عدا في بعض التفاصيل الشكلية مثل حق المواطن الغربي في الذهاب إلى المحاكم لاسترجاع حقه إن استطاع أمام جبروت منظومة الحكم).
واللافت في الأمر أن الحكومات لم تعد تستحي من أي شيء، كاللجوء إلى خيارات التجسس والقوة والتضييق على الحريات، وأيضا طرد اللاجئين بطرق مهينة وإساءة معاملتهم وتغيير القوانين لحرمانهم من أبسط حقوقهم.
لا أحد سيصدّق بعد كل هذا أن الغرب واحة حرية وأمان، خصوصا إذا أُضيف له الضائقة الاقتصادية ومشاكل الهوية والجنوح السهل إلى لوم الجناة الخطأ (لاجئون وأقليات عرقية أو ثقافية أو دينية) وهشاشة المنظومات الاجتماعية الراسخة أمام سطوة منصات الإعلام الاجتماعي العملاقة.

الذين هاجروا من مجتمعاتنا إلى أوروبا قبل ثلاثين سنة وأكثر يدركون الفرق بين آنذاك واليوم. والذين يتأملون الحال منهم يدركون بسهولة أن بذرة الشر كانت موجودة آنذاك، لكن طفوها إلى السطح كان صعبا. بذرة الشر هذه استمرت في الوجود لكن طفوها إلى السطح أصبح أسهل بكثير اليوم لأن الأرضية خصبة لازدهارها.
الغرب اليوم عاجز عن محاسبة إسرائيل لأنه مفلس أمامها، وعاجز عن ردعها لأن ماضيه الأسود مع اليهود يمنعه.
حكم محكمة العدل الدولية في دعوى جنوب إفريقيا، عندما يصدر ويوم يصدر، سيكون حكما على كل هذا بغضِّ النظر إن قال بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة أم لا.

كاتب صحافي جزائري

الفيديو

تابعونا على الفيس