تصاعد فجأة التوتر بين الجارتَين: باكستان وإيران حين أطلقت الأخيرة صواريخ بالستيّة ومسيّرات على ما قيل إنه معاقل لمنظمة "جيش العدل" السُنية التي تتخذ من باكستان مقرًا لها، والتي تتهمها إيران بتنفيذ عمليات داخل أراضيها، وردّت باكستان على الفور بقصف جويّ وصاروخي على ما وصفته بمقرات لجماعات انفصالية بلوشية، ممثلة بـ"جيش تحرير بلوشستان" وجبهة "تحرير بلوشستان" اللذين يتخذان من إقليم سيستان البلوشي الإيراني منطلقًا لنشاطاتهما ضد باكستان.
المفاجأة للمراقبين السياسيين والعسكريين الباكستانيين، هي في طريقة الرد الإيراني العنيف بهذا الشكل غير المسبوق في علاقات البلدين، لا سيما أن اتصالات عالية المستوى كانت تجري بين مسؤولي البلدين، بالإضافة إلى أن العمليات الأخيرة لم يتبنَّها "جيشُ العدل" وإنما تبنّاها "تنظيم الدولة"، وردّت إيران بقصف ما قالت إنه معاقل لـ"تنظيم الدولة" في محافظة "إدلب"، والتي كانت قد تطّهرت من التنظيم قبل سنوات، في حين الكل يعلم أن الأخير ينشط في مناطق شرق سوريا، حيث تتقاسم جغرافيّة المنطقة المليشيات الموالية لإيران، وروسيا، مع القوات الأميركيّة وقوات "قسد الكردية" الحليفة لها.يعود التمرّد البلوشي في باكستان إلى عام 1973، حين طالبت جماعات بلوشية بمزيد من الحقوق الاقتصادية والسياسية، لاسيما أن إقليم بلوشستان الباكستاني يعد الأكبر مساحة في باكستان، والأقل ديمغرافية فيها، والأغنى بالثروات الطبيعية، مثل الغاز، مع إطلالة على الخليج العربي، وفّرت له لاحقًا أن يحظى بميناء هو الأهم جيوستراتيجيًا وسياسيًا في المنطقة بعد استثمار الصين فيه.
لكن الحاضنة البلوشية ترى في ذلك كله خادمًا للأقاليم الباكستانية الأخرى، وتحديدًا البنجاب الذي يشكل أكثر من 60% من سكان باكستان، بينما أهل الإقليم محرومون حتى من الغاز الذي ينتجه الإقليم، ومع مرور الوقت تنامى التمرد والغضب وسط الحركات البلوشية التي لجأت لكسب الدعم من روسيا أحيانًا وأميركا والهند وإيران أحيانًا أخرى، وساعد وصول حكومات أفغانية قريبة لروسيا وأميركا في العقود الماضية في تعزيز وجود مثل هذه الجماعات، وتعاظم خطرها وتهديدها، لكن بعد عام 2000 ظهر جيشُ "تحرير بلوشستان"، ثم جبهةُ "تحرير بلوشستان" اللذان يتّخذان بحسب التقديرات الباكستانية من المناطق الإيرانية المجاورة لباكستان منطلقًا لنشاطاتهما. جافادانفار، قائد فيلق سليمان الفارسي في سيستان، وقبله الهجوم الذي استهدف مخفرًا للشرطة في ديسمبر الماضي، بشمال شرقي البلاد، وأسفر عن مقتل 11 شخصًا.
في 2010 كنت أُعدُّ فيلمًا عن بلوش باكستان وغُصت في تفاصيل المشهد البلوشي الممتد من باكستان إلى إيران وأفغانستان، والتقيت خلال إعداد الفيلم كبار قادة المتمردين، والشخصيات السياسية الباكستانية والأفغانية المعنية بالملف، بالإضافة إلى قراءة معمقة للواقع البلوشي في المنطقة، ووقفت على تفاصيل مهمة وتقاطعات إقليمية ودولية ضخمة، وظهر لي أن البلوش من قوميين وإسلاميين، ضحايا تلك الصراعات والتسويات الإقليمية والدولية.
كما تجلّى لي أن كلا البلدين: إيران وباكستان، يستخدمان الجماعات البلوشية كحروب وكالة، بغية امتيازات جيوسياسية واقتصادية، لكن الأوضح أن باكستان تراجعت عن هذه السياسة في تلك الفترة بسبب تخلّي الرئيس برويز مشرف يومها عن دعم وحماية هذه الجماعات، ليصل الأمر حتى لحظر الجماعات الكشميرية. أما إيران فواصلت سياستها المعروفة ببناء مليشيات موالية لها في المناطق المجاورة لها، وحتى البعيدة عنها، فكان تشكيل لواء "زينبيون" الشيعي الباكستاني الذي يقاتل في سوريا الآن، وهو ما يُقلق السلطات الباكسانية في أن يُستخدم لاحقًا كأداة من أدوات حروب الوكالة ليستهدف وجودها.
على الرغم من اعتقاد البعض أن القصف الإيراني جاء ليعزز الوحدة الوطنية الباكستانية في ظل ما تعانيه من توترات داخلية، إلَّا أنه بالمقابل أتى في ظروف بالغة الصعوبة، أولها: مواصلة سجن رئيس وزراء منتخب سابق، وذي شعبية عمران خان، وما ترتب عليه من توترات مع المؤسسة العسكرية، مصحوبًا باقتراب باكستان من انتخابات عامة يوم الثامن من الشهر المقبل، وهو الأمر الذي يضع أمامها استحقاقات عدة، وما يزيد من خطورة الوضع الباكستاني هو حالة البرود أو التوتر في علاقاتها مع حركة طالبان الأفغانية، على خلفية اتهاماتها للأخيرة بتوفير الملاذ الآمن لحركة طالبان باكستان التي تستهدف بشكل متواصل مؤسسات الدولة الباكستانية.
لكن بالمجمل فإن كل من يعرف باكستان وتاريخها يعلم تمامًا أن العسكر الذين حكموا لأكثر من نصف تاريخها، هم من يملكون قرار الحرب والسلم، وبالتالي فإنه مهما كانت الحكومة السياسية ضعيفة أو هشة، فإن القرار النهائي في المحصلة للجيش الباكستاني الذي يعدّ الوارث الحقيقيّ للدولة.