التكفير واستحلال دماء الناس.. هل نحن بحاجة لموسوعة للعقيدة؟

سبت, 01/13/2024 - 10:11

كثير من العلوم الإسلامية – كما هو معلوم لدارسيها – نشأت ونضِجت، قبل أن تكتب قواعدها، ثم بعد فترة من الزمن، بدأ التدوين والتقعيد لها، فنشأ علم القواعد الفقهية، بعد أن انتشر علم الفقه وكتبت تفاصيله ودوّنت، وانتشرت المذاهب الأربعة.

وقد نبغ في تأسيس هذا العلم الأحناف، وذلك على يد أبي طاهر الدباس، ثم بعد ذلك بدأ كل مذهب في تدوين القواعد المتعلقة بمذهبه، أو القواعد الفقهية والأصولية بشكل عام.

لكن الملاحظ أن الوفرة في كتب القواعد عند جميع المذاهب، كانت في الجانب الأصولي والفقهي، فلم يخلُ مذهب- غالبًا- من كتب فيها، فرأينا عددًا من كتب القواعد عند الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، بل وعند الإمامية الشيعة، والإباضية رأينا ذلك مؤخرًا، ولم يكن لهم من قبلُ كتب معروفة في القواعد الفقهية، فأصدرتها وزارة الأوقاف العُمانية، بعنوان: "القواعد الفقهية الإباضية" في مجلدَين، ثم أصدرت عملًا آخر للقواعد الفقهية الإباضية مقارنًا بالمذاهب الأربعة والمذهب الزيدي، في ستة مجلدات، وقد قام به أيضًا الدكتور محمود مصطفى عبود آل هرموش.

إلا أنه لوحظ خلو جانب العقيدة الإسلامية- على أهميته وخطورته- من إنشاء علم قواعد لها، كما الحال في الفقه والأصول، فبينما نما وترعرع علم القواعد الأصولية والفقهية، في كل المذاهب، وبشكل متكاثر، إلا أنه ندر جدًا، بل لم يكن، في جانب الاعتقاد، رغم الحاجة الماسّة لذلك، فهو جانب يتعلق بالإيمان والكفر، وبقية مفردات العقيدة وتفاصيلها، وكثيرًا ما شطّت عقول، وزلّت أقدام، في هذا الجانب، وكانت فتنة التكفير، وفتنة استحلال دماء الناس، بسبب غياب مثل هذه المنهجية والقواعد عن الدارسين للعقيدة، والعلوم الإسلامية بوجه عام
محاولات تراثية
لا نعلم في تراثنا الفقهي والعقدي محاولات في تقعيد الجانب العقدي منها، إلا فيما ورد عن الإمام السُّبْكي في كتابه: (الأشباه والنظائر)، وهو كتاب قواعد على المذهب الشافعي، ولكنه في أحد أبواب الكتاب، وضعَ قواعد أطلق عليها: "في أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية"، وقد نبّه الباحثين لهذه القواعد، الدكتورُ جمال الدين عطية في كتابه: (التنظير الفقهي)، وكذلك الدكتور حسن الشافعي في كتابه: (مقدمة تأسيسية لعلم القواعد الاعتقادية).

سبق السُّبكي إلى ذلك أيضًا من المذهب الشافعي، الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه: (إحياء علوم الدين)، وهو ليس كتاب فقه أو قواعد، بالمعنى الاصطلاحي، ففي كتابه، كتب الغزالي عدة فصول، تحت عنوان: قواعد العقائد، وإن لم تكن بمعنى القواعد الاصطلاحي، لكنه شرح فيها شرحًا متوسطًا بين الاختصار والإسهاب لعقيدة أهل السنة والجماعة، في أسماء الله وصفاته، ثم درجات الاعتقاد، ثم الحديث عن أركان الإيمان على وجه الإجمال.

لم تخلُ بعض كتب القواعد الفقهية الأخرى، من وجود قواعد تتعلّق بالاعتقاد، وبخاصة في القواعد المتعلقة بالكفر، خاصة كتب القواعد التي كتبت بترتيب حروف الهجاء، وابتدأ ذلك الإمام الزركشي في قواعده المسماة بـ: (المنثور في القواعد).

ومن شرحوا هذه القواعد أو كتبوا حواشي عليها، تناولوا نفس القواعد سواء بالشرح أو الاختصار، مثل: الإمام الشعراني، عند تناوله القواعدَ الفقهية، ولم يطلق عليها فقهية، بل سمّى كتابه: (المقاصد السنية في بيان القواعد الشرعية)، وقد تناول مفردة: (كفر)، وما يتعلق بها من قواعد، ووضع عدة قواعد وضوابط في غاية الأهمية، في عدة صفحات قليلة، لكنها مهمة، وكذلك فعل الإمام العبادي في حاشيته على قواعد الزركشي.
أول كتاب تراثي عن القواعد الكلامية
في هذا السياق الزمني- بعد الغزالي، وفي القرن الذي كان فيه العز بن عبد السلام، والقَرَافي، وغيرهما، ممن عنوا بوضع كتب في القواعد الفقهية- وُجد فقيه عني بالقواعد، فكتب كتابًا بعنوان: (كتاب القواعد الكلية.. في جملة من الفنون العلمية)، وهو شمس الدين الأصفهاني، ولم يكن قد نشر من قبل، ثم نشرته مؤخرًا: نشريات وقف الديانة التركي، منذ بضع سنوات، وهو كتاب عن القواعد، تناول عددًا من العلوم وقواعدها، وهي: المنطق، وعلم الخلاف، وأصول الفقه، وأصول الدين. فقد خصص قسمًا من كتابه للقواعد الكلية المتعلقة بأصول الدين، أي: العقيدة.

ويبدو أن أحدًا لم ينتبه للكتاب؛ لأنه ظل طَوال هذه السنوات مخطوطًا، ولم يتيسّر للباحثين الاطلاع عليه إلا منذ بضع سنوات، ويعد الكتاب أول كتاب تراثي يعْنى بالقواعد الاعتقادية، وإن لم يكن أيضًا داخلًا في باب القواعد بالمعنى الاصطلاحي، بل شرح شرحًا عامًا لما يمكن أن يكون نواة لقواعد كلية عن أصول الدين.

محاولة حسن الشافعي
لا نعلم محاولة أو تجربة جادة في الأمر في عصرنا الحديث في الموضوع، سوى عند الدكتور حسن الشافعي، حفظه الله، فقد شغل وعَني منذ فترة بالموضوع، وكتب فيه أكثر من مرّة، بعد أن تبين خلو الساحة العلمية من جهد في هذا المجال، فتارة يكتب مقالًا، وتارة يكتب ورقة بحث تقدم لمجموعة من أهل العلم للنقاش والإثراء، ثم مؤخرًا قام بتوسعة هذه الورقة لتصدر في كتاب متوسط الحجم، بعنوان: (مقدمة تأسيسية لعلم القواعد الاعتقادية).
تناول الشافعي في كتابه، تاريخ نشأة القواعد بوجه عام، ثم أماكن وجود قواعد الاعتقاد ومظانها، وأهمية صدور عمل عنها، ورغم صدور الكتاب منذ سنوات تصل للعشر، إلا أن شيخنا الشافعي لم يُتبع ما كتبه بعمل يكمل ما بدأه، ولم يبلغنا أن سعيًا قام به نحو المضي قدمًا في هذا الموضوع المهم جدًا.

لا شك أن مقدمة الشافعي التأسيسية، مهمة، وكاشفة عن الموضوع، وعن أهميته، وعن خلو المكتبة الإسلامية منه، وعن ضربه نماذجَ لهذه القواعد في كتب القرآن الكريم، وكتب في ذلك مقالًا عن القواعد الاعتقادية في سورة البقرة، كنموذج يبنى عليه، سواء من خلال كتب التفسير التراثية، أو المعاصرة، التي عنيت بتناول حديث القرآن عن العقيدة، سواء من خلال التفسير التحليلي أو الموضوعي للقرآن الكريم.

ثم القواعد في السنة، وفي كتب القواعد الفقهية، وكتب العقيدة، وضرب نماذج لذلك، وللنموذج الموضوعي في القواعد، وهو جهد طيب منه، وبادرة سباقة، فلا نعلم بحثًا أو كتابًا وضع خُطة عمل للبحث في القواعد الاعتقادية، كما بيّن كتاب الدكتور الشافعي.

من يحمل هذا العبء؟
أعتقد أن مثل هذا العبء سيصعب على فرد القيام به وحده، وإن كانت البداية من أفراد غالبًا ما ستكون الأسرع والأكثر إنجازًا، لكن العمل الجماعي هنا مهم، لاتساع الموضوع، وبخاصة من في سنّ فضيلة الدكتور حسن الشافعي، ولا بد أن يخرج الأمر من إطار الأفراد إلى إطار آخر جماعي علمي.

وذلك عن طريق: مجمع الفقه الإسلامي، أو مجمع البحوث الإسلامية، أو المراكز الكبيرة التي أصبحت معنية بالبحث العلمي حاليًا، ولديها ميزانيات كبيرة، تتسع لتكوين فريق عمل كبير يليق بالعمل المطلوب، وأهميته، ويمكن اعتماد ذلك من أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية ليقترح على طلبة الماجستير والدكتوراه، على هيئة أبواب معينة، لكن وَفق خطة متكاملة واضحة لدى القائمين على العمل، ثم بعد ذلك تجمع هذه الأعمال في كتب.
موسوعة القواعد والضوابط الاعتقادية، ثم يتسع الأمر ليتناول فيما بعد: الفروق الاعتقادية كذلك، على غرار: الفروق الفقهية.

فهناك مصطلحات ومفردات في العقيدة، تحتاج إلى بيان الفروق بينها؛ لأهميتها، مثل: الفرق بين كفر العمل، وكفر العقيدة، والفرق بين نفاق العمل ونفاق العقيدة، والفرق بين الإيمان والإسلام، والفرق بين الكتابي وغير الكتابي، والفرق بين الكافر والزنديق، وهكذا من المصطلحات والمفردات التي بينهما التقاء وافتراق.

من قبلُ قام مجمع الفقه الإسلامي بعبء الإعداد والتخطيط والإشراف على إصدار موسوعة القواعد والضوابط الفقهية، وسميت باسم: (معلمة زايد)، واستمر العمل سنوات، حتى خرجت في عمل مهم وعظيم، في مجلدات كبيرة فاقت الأربعين مجلدًا، لكنها ظلت مفخرة ومنجزًا علميًا مهمًا، والعمل على موسوعة مماثلة في العقيدة، لا يقل أهمية، لكنه ينتظر من يتبناه، ويقوم على رعايته، وما أكثر الجهات، إذا صح العزم، وصدقت النوايا.

الفيديو

تابعونا على الفيس