يتدفّق "طوفان الأقصى" منذ تسعين يومًا أو يزيد، ويجرف أمامه كثيرًا من القناعات والمفاهيم، والأوهام التي رانت على القلوب والعقول، منذ أن غرس الغرب في قلب الوطن العربي مشروعه الكولونيالي الإحلالي.
ففي الغرب نفسه بات كثير من مثقفيهم ومفكريهم يتحدثون عن أن ما آلت إليه الحرب الإسرائيلية على غزة حتى الآن- بمساعدة الولايات المتحدة، وحلف "الناتو"- هو هزيمة إستراتيجية لإسرائيل.
نعم هي كذلك، كما يتّضح من مجرّد مراجعة سريعة للنتائج، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها. فقد أخفقت إسرائيل وجيشها، ومنظومتها السياسية والتعبوية والإدارية، في تحقيق أي من أهدافها المعلنة من الحرب، بعد ثلاثة شهور علت فيها أصوات استغاثات جنودها، بل علت فوق صراخهم الرعديد تكبيرات المقاومين المجاهدين.
ما نشهده من صمود وغَلَبَة
فلا قضت إسرائيل على حماس والمقاومة، ولا هي استنقذت محتجزيها في غزة، ولا هي نجحت في رأب الصدع الاجتماعي المتعمق يومًا بعد يوم داخل كيانها الكولونيالي، ولا هي تستطيع اليوم أن تزيل آثار الهزيمة النفسية التي لحقت بمستوطنين قيل لهم يومًا: هذه هي أرض العسل والسعادة.
إنّ كل ما أنجزته إسرائيل هو التدمير والإبادة الجماعية النابعة من عقيدتها الإجرامية "المقدسة"، قتلًا وإعاقة للأطفال والنساء والمدنيين بعشرات الألوف وأكثر، فأصبحت في نظر كثيرين في العالم دولة مارقة، اللهم إلا في نظر جو بايدن، والصهاينة من شاكلته، عربًا وعجمًا.
هزيمة إستراتيجية للغرب
وهي كذلك هزيمة إستراتيجية للغرب الاستعماري، إذ هو من زرع إسرائيل حيث هي اليوم، وحرص على الدوام على نجدتها في كل خطر، والذود عنها عند كل مواجهة. فقد أرادها دهاقنته، وأرباب خططه ومؤامراته إسفينًا يشق الوطن العربي، ويتسلّط عليه، ويسلط عليه أتباعًا للغرب من أهل الوطن أنفسهم. وهؤلاء ما زالوا يؤدون وظائفهم إرضاء للغرب حتى يومنا هذا.
وقد تعوّدنا نصرة الغربِ إسرائيلَ فيما مضى، لكنهم هذه المرة هبّوا إليها بخُيَلائهم وقادتهم، ونشروا أساطيلهم وطائراتهم في البحار حين رأوا أنّ مستقبل الكيان الإحلالي، ومستقبل الدور الذي يقوم به، بل ومستقبل وجوده، مهددٌ بالخطر، إذ أخذ يهتز ويترنّح أمام حركة مقاومة في بقعة من الأرض، يمتلك أكبر منها بكثير أصحاب المزارع والأموال في أميركا، وغيرها من دول الغرب الرأسمالي. كلهم توافدوا على الكيان ليقولوا: "نحن معكم" إلا من امتلك منهم الجرأة ولم يأتِ.
وحين يصبح المشروع الاستعماري مهددًا بالسقوط في مرحلة الهزيمة الإستراتيجية، فإن المستعمر يصبح أشرسَ في هجماته، وأقسى في ردود فعله. ولعل أبرز مثال على ذلك ما قامت به الولايات المتحدة، وما ارتكبته من مجازر في فيتنام، ذهب ضحيتها ثلاثة ملايين فيتنامي، حين أدركت أن هزيمتها الإستراتيجية- أمام ثوار الفيتكونغ وصمود "هوتش منه" في هانوي- ستصبح عما قريب هزيمة وجودية، فما لبثت أن رحلت تاركة وراءها طائراتها وأسلحتها وعملاءها، ليواجهوا مصيرهم المحتوم، مثل كل عملاء الاحتلال حين ينهزم ويرحل. والأمثلة على مثل ذلك كثيرة، ولا يتّسع مقال كهذا للتَّعداد.
وليس غريبًا ولا محيرًا، والحال هذه، أن تشارك قوات الغرب وجنوده في الحرب على غزة، وليس مفاجئًا ولا غريبًا أن تكون الغاية النهائية للحرب- التي يريدها الغرب وإسرائيل، وهي أداته الإجرامية وآلة حربه الميدانية- هي الإبادة الجماعية لأهل غزة وتهجيرهم، فالبحث جارٍ الآن في دوائر الكونغرس مع المسؤولين الإسرائيليين عن أفضل السبل لتهجير سكان غزة لأميركا، وتشجيعهم على الرحيل.
لكن ما نشهده من صمود وغَلَبَة للمقاومة في الميدان في غزة، وتمسك بالأرض وتراب الوطن من جانب المواطنين، ورفض لأي تهجير قسري أو طوعي – رغم استشهاد وإصابة قرابة مئة ألف أو يزيدون حتى الآن- يجعل من "طوفان الأقصى" هزيمة إستراتيجية للغرب، كما هي لإسرائيل
الأوراق بيد واشنطن. وهكذا يصبح الحديث عن مواجهة إسرائيل وهزيمتها في الميدان عبثًا، فتوقفت المدافع وانكشف الأمر، إذ كانت الحرب حرب تحريك، وليست حرب تحرير باتفاق وتنسيق مع الأميركيين. وما لبث السادات أن طار إلى القدس المحتلة، وأصبح في نظر الغرب- ووسائل إعلامه- بطلًا سيتبوأ الصدر في التاريخ، لكن لم يمهله القدر.