هي رواية ثنائيات تتصارع: الشخص ضد قناعه، نور الشهدي ضد أور شابيرا، سماء الحيفاوية ضد أيالا الصهيونية، مريم المجدلية ضد بطرس، المخيم ضد المستعمرة، حي الشيخ جراح ضد محاولات هدمه، وبصورة أشمل حقيقة فلسطين ضد تزييف إسرائيل. هذا ما نقرأه في رواية «قناع بلون السماء» للروائي الفلسطيني باسم خندقجي التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، في لحظة مصيرية حساسة في وطن «باسم» ملونة بالدم، تدفعنا إلى تساؤل وجودي، هل ما تزال الإنسانية بخير؟ فبعيدا عن أي تعاطف مع الرواية وصاحبها نتيجة ما يجري في غزة كتب باسم خندقجي نصّا ذا بنية فنية متقنة بتمكّن لا شك فيه من تقنيات اللعبة السردية، وتخييل عالٍ راكمه بقراءات مكثفة في سجنه الصغير وبتجريب في أنواع كتابية متعددة قبل روايته هذه.
وسيرة الروائي باسم خندقجي بحدّ ذاتها حكاية تستحق أن تروى فهذا الشاب الفلسطيني الأربعيني (مواليد 1983) قضى لحدّ الآن نصف عمره في السجون الإسرائيلية، إذ دخل السجن سنة 2004 محكوما عليه بثلاثة أحكام مؤبدة في عملية سوق الكرمة، وكان يومها في سنته الأخيرة في قسم الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية، ولكن أنّى للسجن أن يحتجز روحا حرة، إذ واصل دراسته في العلوم السياسية منتسبا إلى جامعة القدس، منوِّعا كتاباته ما بين المقالات السياسية عن الكولونيالية وعن المرأة، والشعر، حيث أصدر مجموعتين شعريتين ليستقر في ساحة الرواية منذ عشر سنوات، حين صدرت روايته الأولى «مسك الكفاية» أتبعها بروايتين أخريين «نرجس العزلة» و«خسوف بدر الدين» قبل روايته الأخيرة هذه «قناع بوجه الشمس»، التي كانت تحمل عنوان «شياطين مريم المجدلية» وصودرت مسوداتها منه يوم نقل من سجن «هيداريم» إلى سجن «نفحة» في صحراء النقب في الجنوب. ولا يزال هذا الكاتب العضو في اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني يؤرق الغطرسة الصهيونية بفضحه لسرديتها بمقالاته ورواياته المهربة من السجون الإسرائيلية، لتعانق سماء الحرية وفضاء النشر، فارضة نفسها بقيمتها الإبداعية، لا بتعاطف يرفضه باسم خندقجي، كما يرفض أن يطلق عليه لقب الروائي الأسير، ولعل هذا ما جعله يتجنب الكتابة، في ما يدخل تحت مسمى أدب السجون الذي كان منتَجا غالِبا على الروائيين الذين كتبوا نصوصهم وراء القضبان. غير أن السجن الفعلي الذي يعيشه باسم خندقجي منذ عشرين سنة، يأبى إلا أن يطل برأسه وإنْ على استحياء، سواء من خلال شخصية مراد صديق بطل الرواية «نور» وهو القابع في السجن يقضي حكمه بالسجن المؤبد، كما هو باسم نفسه، أو من خلال جمل هي حديث الروائي عن نفسه من خلال قناع مراد، ويكفي أن نحذف اسم مراد ونضع مكانه باسم في جملة مثل «واجه مراد حديد المعتقل بإرادته الفولاذية، وهزم غربته المريرة بالأمل المتدفق من حبر قلمه، ليبارز الحرمان والانتزاع الحاد والممنهج للإنسانية في زمنها ومكانها» لنجدها منطبقة عليه. فلا يمكن التفلت من السجن وآثاره على النفس، ولو حاول الروائي واعيا أن يتجنب ذلك لكسر الصورة النمطية عما يسمى أدب السجون، ويكفي وصف واحد ورد في الرواية يختصر القصة كلها «السجن كثافة».
اختار باسم خندقجي لروايته شابا عاديا، لا تناسبه صفة البطولة ولو روائيا، فهو لم يكن مناضلا سياسيا ولا فدائيا، بل رجلا ثلاثينيا تُختصر حياته في جملة انكسارات، حيث يولد في مخيم في رام الله ليس مهما اسمه، لأنه لم يرتبط بمجزرة، توفيت أمه وهي تمنحه الحياة وتمنحه وجها أبيض وشعرا أشقر وعينين زرقاوين تجعله يبدو للناظر إليه يهوديا أشكينازيا غربيا، لا فلسطينيا عربيا لونت الأرض وجهه بسمرتها. دخل والده السجن بطلا فدائيا ربعَ قرن كامل، ليخرج منه أطلالا محطمة، بعد أن رأى شركاء النضال يتناهبون المنافع ويتقاسمون المناصب، فيصوم عن الكلام وهو يسوق أمامه عربة يبيع فيها القهوة والشاي. وحتى صديق «نور مهدي الشهدي» شخصية الرواية الأساسية
بالذنب، من نور الذي زرع تقمصه شخصية أور «علقة خبيثة فيه امتصت دمه وأحالته إلى مترجم صهيوني فصيح اللسان». ولم يكن الخلاص من هذا الوضع الخطير الشاذ سوى بنزعِ القناع الذي جعل منه مسخا وخروجِه من الكيبوتس بعد معركة مسيرة الأعلام في القدس، وإلغاء عملية التنقيب بسببها. فتقف له «سماء» في نهاية الرواية بسيارتها لترجعه إلى مدينته وإلى حقيقته وتصبح كما قال لها «أنت هويتي ومآلي».
بقي أن أشير إلى أمر لفتني في آخر الرواية هو، توجيه باسم خندقجي الشكر والعرفان لمن ساعده، سواء بالمعلومات التاريخية أو بتفاصيل مدينة القدس الجغرافية في تقليد نفتقده في الروايات العربية، بل وفي البحوث الأكاديمية، وكأن الروائي العربي بطل خارق يبني من عدَم قصرا من الكلمات بجهده الفردي.
«قناع بلون السماء» رواية تستمد قيمتها من سردها المتقن ولغتها الموحية، لا من تعاطف مع كاتبها السجين، أو مسرحها المحترق بالحقد الآن، مع يقيننا أن لا بد أن يبصر الروائي ووطنه حتما يوما ما «سماء بلا قناع».
شاعرة وإعلامية من البحرين