السبيل إلى إحياء السياسة بعد موتها في تونس (2/2)

جمعة, 12/29/2023 - 14:08

من أكثر الشعارات التي أضرَّت بالنخب السياسيّة، وحركات التغيير في المجال العربي بصفة عامّة، وفي تونس بصفة خاصة، شعار: "السياسة فنّ الممكن"، المنسوب إلى "بسمارك" موحّد ومؤسّس الإمبراطورية الألمانية، والمرتبط بنظريتَي؛ الواقعية السياسية والبراغماتية.

هذا الشعار، الذي برّر طيلة عقود طويلة ارتهانَ قوى سياسية عديدة من مدارس أيديولوجية مختلفة لتوازنات الأمر الواقع، وإكراهاته، تحت مسمّى الموضوعية والمرونة في التعامل مع الواقع وشروطه الراهنة على قدر الإمكانات المتاحة، وعدم الانسياق وراء التنظير، والأيديولوجيا، والعاطفة و"الإرادة المستحيلة،" عند رسم السياسات، واتخاذ القرارات.

ربّما كان هذا المنهج مفيدًا ونافعًا لو كان الأمر الواقع- الذي تتم مراعاته والاحتكام إليه عند اتخاذ القرارات- ملائمًا وايجابيًا لتلك القوى. ولكنّها ظلّت طيلة عقود- عدا فترات محدودة لم تُحسن استثمارها- تخرج من واقع معقّد ومُعادٍ، نحو واقع أكثر تعقيدًا تُحدّد معالمه قوى داخلية وخارجية، ترفض التغيير، وتقاوم الإصلاح، وتعمل على المُحافظة على الوضع الراهن والمصالح القائمة.

وهو ما يجعلها اليوم أمام معادلة صعبة ينحصر فيها مجال "الممكن"، لدرجة تجعل من الفعل المتاح أضعفَ من إنجاز التغيير المنشود، أو حتى التأثير الجِدّي في الواقع ذاته.

في مبرّرات الواقعية السياسية
دعنا نعترف بأنّ أغلب الفاعلين السياسيين في تونس، وفي عموم المنطقة، وصلوا إلى مدرسة الواقعية بعد أن جرّبوا طويلًا رسم سياساتهم بالاعتماد على التنظير والأيديولوجيا والعاطفة و"الإرادة المستحيلة"، وفشلوا فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافهم وتغيير الواقع.

حيث عجز الوطنيون عن تحقيق الاستقلال الحقيقي والسيادة، والشيوعيون عن تحقيق العدالة الاجتماعية، والقوميون عن تركيز الوحدة العربية، والإسلاميون عن استعادة الخلافة وتطبيق الشريعة وإرساء العدالة، والليبراليون عن بناء اقتصاد سوق مفتوح، مع حريات فردية وجماعية، والديمقراطيون عن إرساء حكم الشعب، وفرض التشاركية، وبناء دولة القانون والمؤسسات.

وكثيرًا ما تتّهم تلك القوى الأشخاصَ والأطرَ التي ترفض التعامل مع الأمر الواقع، وتحاول تحدّي موازين القوى، بالثورجيّة والمثالية الساذجة والحُلم الواهم، والتطرّف والصداميّة، والتسبّب، باسم القيم والمبادئ والحرص على التغيير، في صدامات وكوارث تعطّل التغيير أكثر، وتصعّب عليهم مهمّة التعامل الحكيم مع الواقع.

هذا الكلام ليس تنظيرًا، وإنما واقع عاشته تونس طيلة عقود تحت ظل دكتاتورية بورقيبة وبن علي. وعشناه أكثر في تجربة ما بعد ثورة 2011، وتجربة ما بعد الانقلاب على الديمقراطية في 2021، اللتين شهدتا تغيّرات نوعية مفاجئة في الواقع؛ بفضل جهات فرضت إرادتها على ذلك الواقع دون مراعاة موازين القوى القائمة، وفرضت على الجميع إعادة حساباتهم، وإعادة التموقع ضمن المعادلات الجديدة.

وقد رأينا كيف أفرزت الواقعيّة السياسية تكتلات انتهازيةً وتحالفات غير طبيعية وتنازلاتٍ شملت الثوابت وتراجعًا عن أولويات مصيرية، ولهثًا وراء مكاسب وهمية. والنتيجة كانت انقسامًا مجتمعيًا وصراعًا أيديولوجيًا أكبر مما كان عليه الأمر قبل الثورة، وتعطّلًا لمسارات التغيير التي انطلقت بعد الثورة، وشملت عددًا من مؤسسات الدولة، وتوقّفًا لنوايا الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ومحاولات الإصلاح السياسي والإداري والتربوي والأمني، واستفحالًا لظاهرة الفساد، وسلطة اللوبيات، وتدهورًا للسيادة الوطنية، واضطرابًا للهُوية الوطنية، وفشلًا في تحقيق أهداف الثورة، وإعدادًا لمُناخات ملائمة لانتشار الشعبويّة.

الفيديو

تابعونا على الفيس