اللغة العربية وعصر الرقمنة: تحديات وحلول

خميس, 12/21/2023 - 08:48

يقول أحد المستشرقين: "ليس على وجه الأرض لغة لها من الروعة والعظمة ما للغة العربية، ولكن ليس على وجه الأرض أمة تسعى بوعي أو بلا وعي لتدمير لغتها كالأمة العربية."

فاسمح لي عزيز القارئ أن نخوص سويا في اللغة العربية ونبحر في جمالها الصوتي وإبداعها اللغوي، في ظل عصر الرقمنة.

قررت الأمم المتحدة الاحتفال بالست لغات الرسمية لها في أيام مختلفة من العام، بحيث يكون الاحتفال باللغة الفرنسية في 20 مارس، واللغة الصينية في 20 أبريل، واللغة الإنجليزية والإسبانية في 23 أبريل، واللغة الروسية في 6 يونية. وفي 18 ديسمبر 1973 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للعمل في الأمم المتحدة. وبناء عليه يتم الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر من كل عام.

تحتفل الأمم المتحدة بهذه اللغات الست بهدف دعم تعدد اللغات مما يدل على التنوع الثقافي في الأمم المتحدة، وتعزيز الاستخدام المتكافئ لجميع اللغات الرسمية الستة في جميع أنحاء المنظمة، وأيضا بهدف زيادة الوعي والاحترام لتاريخ وثقافة وإنجازات وتطورات كل لغة منهم بحيث يتضمن الاحتفال إعداد برامج أنشطة مختلفة وفاعليات خاصة بهدف الترفيه.

تعد اللغة العربية خامس لغة على مستوى العالم من حيث الانتشار، حيث يبلغ عدد الناطقين بها أكثر من 467 مليون نسمة من سكان العالم. ويتوزع متحدثو اللغة العربية بين المنطقة العربية والمناطق المجاورة في تركيا وتشاد ومالي السنغال وإرتيريا. كما تعد اللغة العربية من أصعب خمس لغات في العالم من حيث الصعوبة في التعلم، بحيث تشتمل القائمة على لغة الماندارين الصينية واللغة اليابانية واللغة الروسية واللغة الكورية، إضافة للغة العربية. ومن مميزات اللغة العربية أنها لغة ذات أهمية بالغة في الأديان السماوية، بحيث أنها لغة مقدسة في الدين الإسلامي لأنها لغة القرآن الكريم ولا تتم العبادات الإسلامية إلا بإتقان بعض كلمات اللغة العربية، وأيضا في الديانة المسيحية تعد اللغة العربية لغة شعائرية رئيسية لدى الكنائس المسيحية في المنطقة العربية، وفي الديانة اليهودية تمت كتابة أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية باللغة العربية وذلك في العصور الوسطى.

ومن الناحية الصوتية واللغوية (Phonetic & linguistic level)، اللغة العربية لها كثير من المميزات الصوتية واللغوية وبها كثر من الظواهر البديعة التي لا توجد في غيرها من اللغات. تحتوي اللغة العربية على أكبر عدد حروف وأكبر عدد جذور وأكبر عدد كلمات وذلك بالمقارنة مع لغات العالم، حيث يبلغ عدد حروف اللغة العربية 28-29 حرف (ويكون الاختلاف في حرف التاء المربوطة، بحيث أن بعض اللغويين المتخصصين اعتبروه حرف إضافي والبعض الأخر قال إنه ألوفون Allophone من حرف الهاء). وأيضا من حيث عدد الجذور اللغوية فيبلغ عددها 16000 جذر لتكوين أكثر من 13 مليون كلمة غير متكررة. ومن ناحية إحصائية، يعد ذلك العدد الضخم من مفردات اللغة العربية بمثابة حوالي 96 ضعف من مفردات اللغة الفرنسية، و92.3 ضعف من مفردات اللغة الروسية، و20 ضعف من مفردات اللغة الإنجليزية.

ومن الظواهر اللغوية المميزة للغة العربية: "التشكيل" بحيث إذا تغير تشكيل الحرف الواحد من حروف اللغة العربية، ينتج عنه اختلاف كلي في معنى الكلمة. ومثال على ذلك صوت/حرف "ب" في كلمة "بر"، إذا نطقت الكلمة بفتح الباء يكون المعنى "سطح الأرض"، وإذا نطقت بكسر الباء يكون المعنى "الخير والإحسان"، وإذا نطقت بضم الباء يكون المعنى "القمح"، وهكذا في جميع كلمات ومفردات اللغة العربية الثرية.

كما تتميز اللغة العربية بظاهرة لغوية فريدة تسمى "الاشتقاق" بحيث يمكن أن يتم اشتقاق عدد لا حصر له من الكلمات التي تدل على معاني مختلفة وذلك من أصل كلمة واحدة فقط. على سبيل المثال: كلمة "جيد" يمكن نشتق منها أكثر من 8 كلمات مختلفة وذات معنى مختلف مثل: أجياد، جود، جودة، جياد، مستجد، جاد، أجاد، ... إلخ. وأيضا الجذر " ض ر ب" يمكن أن نشتق منه ما يزداد عن 17 كلمة ذات معاني مختلفة، بينما في اللغة الإنجليزية كلمة "hit" لا يمكن لنا أن نشتق منها أكثر من 7 كلمات فقط، مما يدل على فقر اللغة الإنجليزية من ناحية المفردات والمشتقات.

وتحتوي أيضا اللغة العربية على ظاهرة بديعة تسمى "الترادف" حيث أنه يمكن أن ندل على نفس المعنى لكن باستخدام كلمات مختلفة. مثال على ذلك: كلمة "أسد" يوجد في اللغة العربية أكثر من 300 كلمة تدل على كلمة "أسد"، بينما في اللغة الإنجليزية لا يتجاوز عدد الكلمات المرادفة لكلمة "Lion" أكثر من 10 كلمات وغالبيتها أسماء من أفلام كارتونية.

في حقيقة الأمر، اللغة العربية سادت لقرون طويلة من تاريخها بوصفها لغة السياسة والعلم والأدب، فأثرت تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر في كثير من اللغات الأخرى في العالم والتي يبلغ عددها أكثر من 20 لغة، وعلى رأسهم اللغات الأوروبية واللغات الإفريقية والتي تحتوي على أكثر من 7 آلاف كلمة عربية الأصل والتي يطلق عليها الكلمات المستعارة؛ ومن اللغات التي استعارت كلمات عربية الأصل، هم: اللغة التركية، الأوردية، الهاوسا، البرتغالية، الألبانية، الكردية، الملايو، الليتوانية، الفارسية، الماليزية، السواحيلية، المالطية، البلغارية، الإندونيسية، الألبانية، الإسبانية، الصقلية، اليونانية، الأمازيغية. بالإضافة إلى الأحرف العربية التي توجد في هذه اللغات، وأيضا توجد كلمات عربية كثيرة في لغات مختلفة وينطق بها مسلمو باكستان والهند ونستمع إليها كثيرا في الأفلام الهندية، كلمات مثل: إنسان، أصلي، محبة، عشق، مجبور... إلخ.

ومن ناحية الجهار الصوتي العربي، أي أعضاء النطق والكلام لدى المتكلم العربيّ الأصل، فقد نجد أن جهاز النطق العربي يتسع لأكبر عدد من مخارج الأصوات، وذلك طبقا لكثر عدد حروف اللغة العربية، حيث توجد حروف كثيرة تفتقدها اللغات الأخرى. فبعض اللغات لا تحتوي على صوت "ع، غ، ح، خ" بالإضافة لصوت "ض" الذي لا يوجد في أي لغة أخرى في العالم عدا اللغة العربية ولذلك سميت اللغة العربية بلغة الضاد.

فالمتكلم العربي يستطيع أن ينطق جميع حروف اللغات الأخرى بإتقان بل ويزيد عليها لأن جهاز النطق العربي يعتبر جهاز نطق مكتمل النمو من حيث أعضاء النطق والكلام، ومخارج الأصوات وطريقة خروج الأصوات، ولكن لا يكتمل ذلك إلا بالتأكد من تعليم اللغة العربية الفصيحة وجميع أصواتها وحروفها بشكل سليم لدى الأطفال العرب منذ الصغر، لذا نؤكد على ضرورة إتقان اللغة العربية لدى أطفالنا منذ الطفولة وحتى 6 سنوات حتى يكتمل جهازهم النطقي بشكل سليم، ثم نشجع الطفل على تعلم لغات أجنبية أخرى بعد 6 سنوات.

الرقمنة هي برمجة وتحويل كل شيء حولنا إلى شيء إلكتروني أو آلي، حيث تساعد في توفير مساحات تخزين وتخفيض تكاليف الطباعة والورق والحبر، وتوفير الوقت والجهد لدى المستخدم، وتسهيل عملية الأرشيف وبحث وفرز الملفات المختلفة، وأيضا توفير فرص أكبر للتوسع والانتشار والحد من الروتين.

يوجد كثير من التحديات التي تواجه اللغة العربية وكيفية رقمنتها بشكل عصري، بحيث يسهل في استخدامها بما يتناسب مع العصر التكنولوجي الرقمي الذي يعيشه العالم الآن. ومن وجهة نظري المتواضعة كباحثة في علوم الصوتيات واللغويات، سنناقش معا في هذا المقال أثنين من أهم التحديات التي تواجه رقمنة اللغة العربية.

أولا: برمجة اللغة العربية حاسوبيا من حيث تشكيل النصوص والكلمات بكفاءة عالية، وأيضا قراءة اللغة العربية وكتابتها آليا. وقد تم التغلب على هذا التحدي بشكل كبير في العشر سنوات الأخيرة، حيث يوجد الآن ماكينات صراف آلي باللغة العربية، وتستخدم اللغة العربية في كثير من التطبيقات المختلفة على متجر جوجل APP store، كما يوجد كثير من المواقع العربية التي تقوم بتشكيل النصوص العربية بنسبة كفاءة أكثر من 85%. ولكن بشكل عام يعمل المتخصصين في هندسة اللغة على زيادة كفاءة التطبيقات المختلفة التي تعمل باللغة العربية وتبرمجها بشكل آلي بحيث يمكن للألة أن تنطق وتكتب اللغة العربية بشكل سليم وبكفاءة عالية وجودة متميزة، ولكن تواجههم بعض الصعوبات من حيث زخم اللغة العربية بالظواهر الصوتية واللغوية كما تناولناها سابقا في هذا المقال، واعتقد أن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي قد يمكن المتخصصين من التغلب الكامل على هذا التحدي.

ثانيا، ضعف المحتوى العربي على الإنترنت بشكل عام. يمثل هذا التحدي خطورة كبيرة على اللغة العربية ومستخدميها، وأيضا يهدد فرة رقمنة اللغة العربية ويحد من استخدامها وانتشارها كلغة عصرية في المواقع المختلفة. وبالرغم من أن 5.2% من مستخدمي الإنترنت حول العالم من الناطقين باللغة العربية، وحوالي 62% من هؤلاء المستخدمين في مصر والسعودية ولبنان يفضلون تصفح الإنترنت باللغة العربية، إلا أنه قد صرح الاتحاد الدولي للاتصالات أن نسبة إجمالي المحتوى المكتوب باللغة العربية على الإنترنت لا يتجاوز 3% من المحتوى العالمي على الإنترنت، وذلك في الفترة من 2010 إلى 2015. وتشمل هذه النسبة الضئيلة جدا موضوعات محدودة وذات كفاءة متدنية في مجال الطب ومجال البيئة. وفي 2020 لم تزداد هذه النسبة الضئيلة ولكن تم تحسين كفاءتها وجودتها بنسبة تتراوح بين 87%-95% من دقة المحتوى العربي المكتوب. وساهمت 4 دول عربية فقط في نسبة هذا المحتوى العربي على الإنترنت (3%) بنسب مختلفة، حيث ساهمت الأردن بنسبة 75%، تليها السعودية بنسبة 46%، وتليها مصر بنسبة 15%، وأخيرا سوريا بنسبة 10%. أما عن دولة الإمارات فيتم نشر 81% من المحتوى الصادر عنها باللغة الإنجليزية في المحتوى الخاص بمواقع التواصل الاجتماعي، و59% في المحتوى الخاص بالتجارة الإلكترونية.

وكما يبدو في الحقيقة أن وضع اللغة العربية على الإنترنت هو وضع ينم عن أزمة حقيقية تواجه اللغة العربية، حيث هذا الثراء والغنى الصوتي واللغوي للغة العربية لم يترجم إلى محتوى وحضور فعلي يليق بثقل اللغة العربية على شبكة الإنترنت. ويعود السبب في ذلك إلى أن شريحة كبيرة من المستخدمين العرب الناطقين باللغة العربية يتعاملون بلغات أجنبية على الإنترنت فضلا عن اللغة العربية، ومن ناحية أخرى لا يوجد إضافة جديدة للمحتوى العربي على الإنترنت، والموجود هو عبارة عن قص ونسخ، ولا يوجد محتوى إبداعي متنوع ومختلف باللغة العربية على الإنترنت. بالإضافة إلى التراجع الكبير في حركة الترجمة للكتب العلمية والثقافية من وإلى اللغة العربية.

وفي وجهة نظري المتواضعة، أجد أن الحل يتلخص في 4 كلمات بسيطة، هما: الصناعة والتشجيع والترجمة والترفيه. صناعة محتوى بالغة العربية في المجالات المختلفة ونشره في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت المختلفة. تشجيع الأصدقاء والعائلة والأبناء على الكتابة والتحدث باللغة العربية في المواقف المختلفة. ترجمة مقالات وأخبار صحفية وكتب أجنبية إلى اللغة العربية مع إعادة نشرها باللغة العربية. استخدام اللغة العربية في المحتوى الترفيهي على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة في برامج الأطفال والبرامج الاجتماعية والبرامج المتعلقة بالمرأة والطفل، حيث يزيد ذلك من وعي الأمهات وتشجيعهم على تعليم أطفالهم اللغة العربية. تفعيل هذه التوصيات يحتاج إلى تكاتف وتعاون الناطقين باللغة العربية على مستوى العالم، بالإضافة إلى عقد شراكات دولية لإتاحة الفرصة لجميع الدول العربية للمشاركة والمساهمة في النهوض بلغتنا العربية الثرية.

عزيزي القارئ الناطق باللغة العربية، طالما أنك قادر على قراءة هذا المقال البسيط باللغة العربية، فلماذا لا تكون عضو مساهم في صناعة ونشر محتوى باللغة العربية على الإنترنت؟ أرجو منك أن تجيب بصدق بينك وبين نفسك بما أنك ناطق باللغة العربية.

دعونا نترك الشعارات جانبا ونتخذ قرار ونعمل بجد للمساعدة في نشر اللغة العربية كي نزيد من ثراءها ونعكس تنوعها وعظمتها وجمال معانيها في المجالات المختلفة على الإنترنت، بحيث تصبح اللغة العربية جزء لا يتجزأ من مكونات هذا العصر الرقمي التكنولوجي.

الفيديو

تابعونا على الفيس