لكنها في الوقت نفسه تتحرك تحت ستار إيقاف الحرب.
وأعني بالأطراف الفاعلة، القوى العسكرية في مناطق العمليات، تحديدًا، وهي: الجيش السوداني من جهة، والدعم السريع من جهة أخرى، ولكل طرف حلفاء من القوى المدنية.
الجيش السوداني، بلا شك، حصل على دعم التيار الإسلامي العريض، إلى جانب الاصطفاف الوطني الذي دخلَ فيه أحزاب ذات ثقل جماهيري، مثل: الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، بقيادة مولانا محمد عثمان الميرغني، ومؤتمر البجا، فضلًا عن الحركات المسلحة التي وقّعت على سلام جوبا، ولديها جيوش مقاتلة، جميعها الآن تحت قيادة عسكرية موحّدة في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، بمن فيهم قوات تابعة لعبد الواحد محمد نور.
أمّا الدعم السريع فهو يعتمد على حاضنة سياسية لحمتها وسداها قوى الحرية والتغيير، ويقود خطها الخارجي رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك، وإن كان حمدوك أقل حماسًا، ويحاول فقط كسب ودّ أميركا وحلفائها، وبعض المنظمات الدولية، وهي كل ما يهمها السيطرة على موارد السودان، أو بالأحرى منع روسيا والصين الاستفادةَ من هذه الموارد، وعلى رأسها الذهب.
الخرطوم كلمة السرّ
وهي قوى لا يرغب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان في تلاشيها، وإنما يحرص، من خلال عدم قطع خطوط التواصل معها، على أن تكون موجودة في المرحلة المقبلة، لتوازن الملعب السياسي، وهي نفسها باتت على قناعة، بأنها لن تستأثر بالحكومة مرة أخرى، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
تصفير العداد
أمّا القوى الإسلامية، التي ساندت الجيش وقاتلت إلى جانبه، فإنها سوف تلقي بعد نهاية الحرب عن كاهلها السلاح، وتستعد للانتخابات، باصطفافات جديدة، ونزعة أيديولوجية أكثر مرونة. وهي لترتيبات تنظيمية تخصها، قرّرت عدم المشاركة في الحكومة خلال المرحلة الانتقالية.
لكن هذا السيناريو الذي سوف يتوج بغلبة الجيش، يحتاج إلى مفاوضات، لا سيما أنه نادرًا ما توجد حرب لا تنتهي على طاولة التفاوض، وهي ضرورية حتى لترتيبات عملية الاستسلام، وتحديد التزامات الأطراف المتقاتلة، وضمان توفير الدعم المالي، وتعويض المتضررين، وتلك عقبات يصعب تجاوزها دون ضمانات دولية وممولين، ما يعني أن العودة إلى منبر جدة ممكنة، ولكن بصورة مختلفة هذه المرة، بعد إخفاقات صاحبت الجولات السابقة.
وإن كان لا أحد يعرف، أيضًا، ما سيحدث بالضبط قبل أو بعد منبر جدة، فإن "غير المتوقع يحدث دائمًا"، وَفقًا لمثل فرنسي شائع استخدمه الكاتب أندريه موروا عنوانًا لإحدى رواياته، خصوصًا أن الإشكالية السلطوية المزمنة في بلاد النيلَين تتعلق بطموحات الأشخاص والقبائل، والانقلابات العسكرية.
ولربما نفاجأ كذلك بقيادة جديدة للدعم السريع تنقلب على آل دقلو وتأخذ بزمام الأمور، في طاولة حوار مع قيادة عسكرية أخرى على رأس الدولة.
وهو أمر غير مستبعد أيضًا، وسط هذه الرمال المتحركة، وإن لم تكن تلك التغيُّرات على مستوى الأشخاص، فهي، قطعًا، ستصيب التحالفات والسياسات، وستقوم بتصفير العداد بالمرّة.
السيناريوهات المستقبلية للسودان ترتبط بصورة أساسية بنتيجة الصراع بين هذه القوى، ومفتاح ذلك هو تحرير العاصمة الخرطوم.
ففي حال انتصر الجيش على الدعم السريع، وهو السيناريو الأقرب- خصوصًا بعد حصول الجيش على أسلحة نوعية واستنفار آلاف المقاتلين، وتصدع الجبهة السياسية المساندة للدعم، مع ارتفاع وتيرة الإدانات الدولية لانتهاكات قوات الدعم السريع، واختراقات عديدة في السياسة الخارجية، أهمها إنهاء مهمة "يونيتامس" في السودان، التي انحازت لطرف دون الآخر، فضلًا عن اقتراب تحديد مصير قائد الدعم السريع حميدتي، حيث يذهب كثير من المؤشرات إلى احتمالية مقتله- فإنَّ هذا الانتصار لا يعني فناء قوات الدعم السريع بالكامل، ولا حتى نهاية قوى الحرية والتغيير.