خصوصية الاستراتيجية العسكرية لحماس، وصعوبة المفر على عدوها من المذلة؟

جمعة, 12/08/2023 - 22:21

لا تساعدني كثيرا خبرتي المهنية في فهم الشروح والتحاليل التي يقدمها بعض الخبراء العسكريين حينما تستضيفهم قنوات تلفزيونية للحديث عن خطط حركة حماس وعقيدتها العسكرية خلال مواجهتها للقوات الإسرائيلية. فهم يُسقطون عليها ما تعلموه في مناهج التعليم حول الحروب النظامية التقليدية. فمثلا: ماذا يقصدون عندما يتكلم أحدهم عن "خط التماس" بين "كتائب القسام" والقوات الإسرائيلية، أو عندما يتحدث آخر عن عمليات "حرب تأخيرية" تشنها حماس...؟

منطق حرب العصابات يختلف...

حماس، كغيرها من فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية، ليست جيشا نظاميا. فهي تقوم بحرب عصابات، خط التماس فيها يقع حيثما استطاعت ضرب العدو. فهي لسيت في مواجهة على جبهة قتالٍ، تكون عادة الحدود الجغرافية الفاصلة فيها بين طرفي النزاع دقيقة المعالم على الأرض، بصورة تسمح بالحديث عن خطوطٍ يتقابل عندها الطرفان المتحاربان. وفي حرب المدن، شاع استخدام المصطلح للتعبير عن الشوارع أو الطرق الفاصلة بين طرفيْ النزاع. وهذ لا ينطبق على حرب غزة رغم كونها تدخل في سجل "حرب المدن".

وكذلك فإن "الحرب التأخيرية" هي الأخرى لا تنطبق عليها تماما. فغاية حماس هي الحاق أكبر ضرر ممكن بالعدو أين وكيف ما استطاعت لذلك سبيلا: سواء كان العدو متحركا أو ثابتا. وهي لا تعمل في الوقت الراهن على طرده، ولا على انتزاع النقاط الأرضية منه والسيطرة عليها والتمسك بها، بل على الحركية والتمويه بغية ألحاق به أكبر قدر ممكن من الخسائر وإضعافه

أضف إلى ذلك أن الحرب تدور في حيز جغرافي ضيق جدا: تبلغ مساحة غزة 365 كم2، والمسافات قصيرة بين نقاطها ومواقعها المختلفة. وتتكون طوبوغرافيتها أساسا من المدن، كما أسلفنا؛ مدن ذات كثافة سكانية عالية في صالح المقاومة الفلسطينية: السكان متعاطفون ومؤيدون لحماس. مما يخلق معضلة كبيرة تعيق عمل قوات الاحتلال، ولو أنها لا تتفادى "الأضرار الجانبية للحرب"، كما يقتضي القانون الدولي ذلك من المتحاربين؛ بل على العكس، تقوم إسرائيل بعقوبة جماعية للفلسطينيين: تتعمد تقتيلهم بهمجية ومحاولةَ تهجيرهم. وكأنها تقتص منهم ما تواجهه من عثرات وصعوبات تحت تلك المدن، حيث يتوفر هنالك نوع من عناصر القوة لدى خصمها من العسير التعامل معه: سلاح الإنفاق. وهذا مفهوم استراتيجي لاستخدام الميدان- تحت الأرض- غير معهود لحد الآن؛ ومن الصعب أن نلقى له مثيلا أو ذكرا كثيرا في أدبيات مناهج التعليم العسكري. ربما تشكل دروس حرب غزة الحالية نقطة الانطلاق لتنظيره وتدريسه.

في انتظار ذلك، نلاحظ أن الأعمال القتالية لحماس لا تستجيب، كما أسلفنا، لمعايير الحرب التقليدية. وهذا ما يحول دون إدراك خططها تماما والتعاطي معها بسهولة.

أهداف عسكرية بعيدة المنال...

صحيح أن إسرائيل لها تجارب لا يستهان بها في مواجهة الحروب غير النظامية. لكن، في سياق الحرب الراهنة، لا تبدو رؤيتها الاستراتيجية على مستوى من الكفاءة يؤهلها لبلوغ الأهداف العدوانية التي يتنافس اعضاء فريق إدارة الحرب في تل أبيب في الحث عليها وتكرارها بنبرة عنيفة، والمتمثلة في:

"1. القضاء كليا على حماس؛

٢. تحرير جميع الرهائن؛

٣. ضمان تأمين إسرائيل مستقبلا من أي تهديد عسكري من حماس ومن منطقة غزة."

يبدو جليا أن عجز النظام الصهيوني عن بلوغ هذه المقاصد يعود إلى عوامل عدة على رأسها عدم الواقعية فيما يتعلق بالأهداف الإستراتيجية المعلنة وعدم مواءمتها مع الوسائل المستخدمة. فمجلس الحرب الإسرائيلي، ذو التوجه اليميني المتطرف، وضع سقفا مفرطا لطموحاته، لما رسم اهدافا ليست في متناوله. فالقضاء كليا على حماس لا يعني فقط تدمير وتحييد قدراتها وأدواتها العسكرية، البشرية والمادية، بل يشمل أولا وقبل كل شيء هزيمتها، بصورة لا رجعة فيها، على الميدانين السياسي والفكري.

وهذا ما تحاول القيادة الإسرائيلية، عبثا، إيهام مواطنيها وحلفائها الغربيين بأنها ستحققه بواسطة حرب الإبادة وجرائم الحرب التي ترتكبها الآن في غزة وفي فلسطين عموما. غير أن جميع المؤشرات تشي بنتائج عكسية تماما: حماس بعيدة كل البعد من الهلاك، الرهائن لم يعودوا إلى بيوتهم وذويهم، بينما إسرائيل تعيش عزلة دولية متزايدة وإذلالا أخلاقيا لم يسبق لهما مثيل.

أين المفر العسكري من مأزق الحرب الشاملة؟

يبحث نتانياهو وفريقه عن ضالة تبدو مستحيلة المنال: حرب أو عملية عسكرية "مثمرة" تنهي الحرب الشاملة، التي شنوها على غزة، وتصون لهم ماء الوجه. في انتظار الحصول عليها، فعليهم أن يعملوا بمعكوس مقولة المُنظِّر الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوزفيتز.

فإن كانت "الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل أخرى"-حسب هذا الاخير، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي وفريقه مجبرون لا محالة على العودة في أجل قريب إلى المفاوضات وقبول الهدَن، ريثما يحصلون على مخرج عسكري من مغامرة حرب الإبادة التي أقدموا عليها في غزة، والتي تبين فشلها الذريع؛ بينما لا يمكنهم الخروج منها هكذا ولا مواصلتها كما أعلنوا ورددوا مرارا وتكرارا، بكل غطرسة ووقاحة. ولا حل عسكريا يلوح في الأفق لورطتهم.

حتى الولايات المتحدة، فها هي عاجزة عن اخراجهم من المأزق، رغم ترسانتها العسكرية الفظيعة ومواردها المالية الهائلة التي وفرتها بسخاء لإسرائيل منذ عملية "طوفان الاقصى". بل أصبح الرئيس جو بايدن وفريقه يبحثون عن مخرج لأنفسهم، خائفين من أن تغمرهم موجة التداعيات السياسية الخطيرة، الداخلية والخارجية، للمغامرة العسكرية الراهنة لإسرائيل في غزة وفلسطين.

الفيديو

تابعونا على الفيس