أغنت تلك الصور عن ملايين الكلمات التي تشرح ما يجري، وتجعل من له عين ترى، وعقل يفهم، وضمير يحكم، بوسعه، أن يميز بين الأشياء، ويعرف أين هو المعتدي، وأين المعتدَى عليه؟ أين صاحب الحق، وأين هاضمه؟
ثم جاءت لحظة تبادل الأسرى لتميز بين الفريقين المتصارعين تمامًا، وتنطق بأشياء كثيرة يتم السكوت عنها، أو مستبعدة بفعل فاعل عن أذن العالم وبصره. فالمقاومة التي يتم نعتها بالإرهاب، تعامل أسراها من الإسرائيليين وغيرهم الذين أفرجت عنهم بطريقة غاية في الاحترام والتواضع واللطف، بينما يعامل الاحتلال من أخرجهم مجبرًا من سجونه في منتهى القسوة والغلظة والاستفزاز، ويمنع أهلهم من الاحتفاء أو الاحتفال بهم، ويهددهم هم أنفسهم بالاعتقال والسجن.
صورةُ الأسرى الخارجين من غزوة مصحوبةٌ بتلويح أيادٍ مودعة، ومصافحات دافئة، وابتسامات ونظرات مفعمة بالامتنان. بل رأينا هذه التي تكتب رسالة بالعبرية تقول للمقاومة فيها: "شكرًا لأنكم عاملتم ابنتي كملكة".
ورأينا هذه التي تصطحب كلبها الذي كان محتجزًا معها، وكيف خرج هو الآخر دون أن ينقص من جسده شيء، بل عدَّه الفاهمون دليلًا على الراحة والاطمئنان الذي لاقاه الأسرى، لأنه لا يمكن لكلب أن يُمثّل الارتياح أو يتصنعه مؤقتًا ليمرر موقفًا عصيبًا مثلما يفعل البشر.
أما صورة الأسرى المفرج عنهم من سجون إسرائيل، فكانت على النقيض من ذلك. خرج أطفال فلسطين ونساؤها من الزنازين كاسفي البال، وجوههم مرهقة، وإن ابتسموا في وجه أهاليهم، فهم يدمعون حزنًا على إخوانهم الذين تركوهم خلف ظهورهم يلاقون أصنافًا من التعذيب الرهيب في السجن.
تغيّر الذهنية الغربية
قادت المضاهاة بين المشهدين كثيرين في مشارق الأرض ومغاربها إلى تكوين انطباع ليس عن سير الحرب فقط، بل أيضًا عن اختلاف الطباع، وتفاوت القدرة على التحمل، بين قوات الاحتلال والمقاومة، وبين "المستوطين" و"المحاصرين"، بل وجدنا من يتساءل عن الاعتقاد الديني الذي يجعل شعبًا يصبر ويتحمل الأذى الشديد على هذا النحو؟ وهو ما جعل فتاة أيرلندية تربط بين الإسلام وقوة التحمل، وسيدة أميركية ترى أن الله حاضر بين الفلسطينيين، ثم تقول منفعلة: لو أن هناك إلهًا سيكون الفلسطينيون والمسلمون شعبه المختار.
بالصورة الناصعة التي صُنعت لهم، وبُني جزء أساسي منها على إفراط إسرائيل في العدوان، وجزء آخر على تصرف الشعب الفلسطيني بإبداء التحمل والصبر والصمود، مثلما رأينا مع الرجل الذي كان يودع حفيدته ويصفها بـ "روح الروح"، أو تصرف المقاومة من خلال التسامي والتسامح، حسبَ ما جرى في لحظة تسليم الأسرى إلى الصليب الأحمر.
ولا بد في هذه النقطة من الانتباه إلى عدم ارتكاب الفلسطينيين أنفسهم مستقبلًا أي فعل يجرح هذه الصورة، ويخلق فرصة سانحة لإسرائيل كي تسيء إليها، وتستعيد زمام المبادرة في معركة الصورة الذهنية.
2 ـ قدرة مناصري القضية الفلسطينية على تبديد الهجمة الدعائية المرتدة التي أخذت إسرائيل في تنفيذها، وبدأت بالتضييق على حراس البوابات أو أصحاب المنصات، مثلما حدث مع إيلون ماسك مالك منصة" X"، ثم الذهاب إلى المؤسسات الأكاديمية والإعلامية التقليدية والاجتماعية، وتجنيد الذباب الإلكتروني، وصنّاع المحتوى على شبكة الإنترنت، في سبيل تحسين الصورة، أو استعادة الصورة التي ثبت أنها بريقها هو بفعل الطلاء المزيف.
لقد ربح الفلسطينيون معركة الصورة مستفيدين من أخطاء عدوهم، ومن جهد المتعاطفين معهم في قارات العالم الست، لكن استمرار هذا الزخم قويًا وفاعلًا، يحتاج إلى جهد منظم في قابل الأيام، تقوم عليه مؤسسة أو مجموعة منظمة ومتماسكة مؤهلة، لممارسة هذا الدور على أفضل وجه ممكن، حتى تبقى الصورة نابضة بقضية الفلسطينيين العادلة.