ربما تعتبر غزة اليوم الموقع الأساسي الذي تدور فيه رحى الحرب الطاحنة التي يركز عليها الإعلام العالمي، لكن الحقيقة أنّ هناك حربًا من نوع آخر تدور في الوقت نفسه، وترتبط بشكل متكامل بالحرب الدائرة في غزة، وهذه الحرب تدور في الضفة الغربيّة والقدس.
ليس المقصود هنا الهجمات التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية يوميًا، والتي تتسبب كل يوم بتفجير منازل وسقوط شهداءَ، زاد عددهم حتى وقت كتابة هذا المقال على 200 شهيد في مختلف مدن وقرى الضفة الغربية.
وإنما نشير في هذا الشأن إلى الحرب التي تعلنها جماعات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي القدس؛ استغلالًا للتعاطف السياسي الغربي الجارف مع حكومة الاحتلال، ومحاولةً لتحقيق واقع جديد في المنطقة بعد أن ينجلي غبار المعركة في غزة، أو عملًا بسيناريوهات مختلفة يضعها بعض ساسة الاحتلال.
تقوم هذه السيناريوهات على أساس تحقيق الانتصار الإسرائيلي في الحرب على غزة، وتفكيك حركة حماس، وتهجير سكان القطاع إلى سيناء، كما كان يتوعد عدد لا بأس به من ساسة إسرائيل في بداية الحرب.
بالرغم من أن فكرة تهجير الفلسطينيين- في غزة إلى سيناء، وفي الضفة الغربية إلى الأردن- تبدو سطحية من الناحية الواقعية، فإنه ينبغي الإشارة هنا إلى أن التيار اليميني المتشدد الذي يحكم دولة الاحتلال اليوم، ليس تيارًا علمانيًا في جزء كبيرٍ منه، وإنما يوجد فيه جزء كبير ينتمي- في الحقيقة- إلى التيار الديني الخَلاصي، الذي يؤمن بنبوءات آخر الزمان، ونزول المسيح المخلّص وغيرها من الروايات الأصولية الدينية التي تحكم حركة أتباع هذا التيار.
وهذا التيار اليوم يشارك بحماسٍ في هذه المعركة؛ لأنه يعتبر أنها مقدمة معركة نهاية العالم التي ستأتي بالمسيح المخلّص!
وهذا ما يشير له باستمرار أقطابُ هذا التيار المشاركون في القتال على جبهة غزة. وأغلبهم من المنتمين لتيار الصهيونية الدينية الذي ينتمي له الحاخامان: إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش.
ويمكن تمييز أفراد هذه الجماعات بين جنود الاحتلال في غزة من بعض الرموز التي يحملونها على ملابسهم العسكرية كصورة المعبد مثلًا.
وتحرص مؤسسات هذا التيار – مثل منظمة بيدينو المتطرفة على سبيل المثال – على نشر صورهم باستمرار للتأكيد على وجودهم في الجبهة.
ولئن كان أتباع هذا التيار يشاركون في الحرب بفاعليَّة في غزة، فإنَّ تركيزهم الأكبر هو في الحقيقة في الضفة الغربية، وبالتالي فإن مخططاتهم الكبرى تجري هناك.
ولئن كان بن غفير معروفًا برعونته الشديدة وخطاباته الشعبوية المثيرة للسخرية حتى على مستوى الداخل الإسرائيلي، إلا أن شخصًا مثل سموتريتش يحمل رؤيةً واضحةً لكيفية تنفيذ عملية التهجير، وبشكل أكثر عمقًا وخطرًا من بن غفير، وهذا ما يرفع مستوى خطورة هذه المخططات.
كما أن سلبية السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية- في التعاطي مع هجمات المستوطنين، ودعوات التهجير إلى الأردن- تغري سموتريتش للمضي قدمًا في محاولة تحقيق هذا المخطط.
وهنا يجب التنبيه إلى أن أدوات محاولة تنفيذ مثل هذا المخطط موجودة بالفعل، فـ"بن غفير" الذي يسلح مستوطني الضفة يجد الأموال اللازمة من سموتريتش من خلال وزارة المالية التي يتحكم بأصولها.
وبالرغم من أنَّ احتمالية نجاح هذه المخططات- في الضفة والقدس على يد جماعات اليمين المتطرفة- تبقى مسألةً غير مسلّمٍ بها، لكن مجرد تصور أن تحاول هذه الجماعات تطبيق رؤيتها بالقوة في الضفة الغربية وفي القدس عبر مليشياتها وجيشها الخاص، يعني ذلك احتمالية انفجار الأوضاع بشكل غير مسبوق في المنطقة.
لذا ينبغي عدم استبعاد هذا السيناريو؛ لأننا ببساطة لا نتعامل هنا مع شخصيات متوازنة، بل هي شخصيات موتورة مدفوعة دينيًا نحو اصطدامٍ مدمر، ولذلك نحتاج إلى من يعلق الجرس والنظر إلى كل صغيرة وكبيرة في المشهد بعمقٍ قبل فوات الأوان.