في شهر سبتمبر الماضي احتفلت ألمانيا بمرور 31 عاما لم تنقطع فيها الكهرباء ولا لدقيقة واحدة: لا عن أي مدينة، ولا عن أي حي، ولا عن أي منزل، ولا حتى عن أي عمود كهربائي ينتصب فوق التراب الألماني. أما في موريتانيا (وهي تشترك مع ألمانيا في تصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة)
فإن الأوقات التي تنقطع فيها الكهرباء عن العاصمة نواكشوط قد تفوق في بعض الأحيان الأوقات التي لا تنقطع فيها. في يوم الجمعة (9 أكتوبر) عرفت العاصمة نواكشوط انقطاعا للكهرباء استمر لساعات طوال، وفي هذا اليوم ذهبتُ إلى المسجد لصلاة الفجر والكهرباء مقطوعة عن حينا، وعدتُ ظهرا بعد صلاة الجمعة والكهرباء ما تزال مقطوعة، ولكم أن تحسبوا عدد الساعات التي ظلت الكهرباء فيها مقطوعة عن حينا. وفي يومي السبت 10 أكتوبر، والأحد 11 أكتوبر تكرر انقطاع الكهرباء في أحياء ومقاطعات العاصمة نواكشوط.
وإذا كانت ألمانيا قد احتفلت بمرور 31 عاما لم تنقطع فيها الكهرباء عن أي منزل على عموم التراب الألماني، فإننا نحن في هذه البلاد لا نحلم إلا بأن تمر بمستشفيات عاصمتنا 31 يوما لا تنقطع فيها الكهرباء عن تلك المستشفيات. أليس هذا الحلم بسيطا؟ قد يكون كذلك، ولكنه ورغم ذلك فهو حلم صعب التحقق.
تحتفل ألمانيا بمرور 31 عاما لم تنقطع فيها الكهرباء عن أراضيها ولا لدقيقة واحدة، ومع ذلك فنحن لم نسمع أبدا أن الألمان قد لقبوا رؤساءهم بألقاب عظيمة كتلك التي نلقب نحن بها رؤساءنا، ولا أنهم قد أسسوا المبادرات للمطالبة بترشح رؤسائهم لمأمورية إضافية، ولم يحدث أن شاهدنا نائبا أو سفيرا ألمانيا يجري لاهثا خلف أو أمام سيارة المستشارة "انجيلا ميركيل"، ولم يحدث كذلك أن شاهدنا طائفة من الشعب الألماني تقف تحت الشمس الحارقة لتستقبل "أنجيلا ميركل" في أي مدينة أو أي قرية ألمانية تقرر زيارتها.
اللافت في الأمر أننا في موريتانيا نبالغ في التصفيق والتطبيل لرؤساء لم ينجزوا شيئا مذكورا (ولا أقصد الرئيس الحالي لوحده)، وذلك في الوقت الذي يبالغ فيه الشعب الألماني في "إظهار الجفاء" لرؤساء حققوا لألمانيا إنجازات عظيمة ليس أقلها احتفال ألمانيا منذ أسابيع بمرور 31 عاما لم تنقطع فيها الكهرباء ولا لدقيقة واحدة عن أي شبر في الأراضي الألمانية.
ما يقال عن المبالغة في التصفيق والتطبيل في موريتانيا لرؤساء لم ينجزوا شيئا، يمكن أن يقال عن بقية رؤساء دول العالم الثالث، وما يقال عن المبالغة في الجفاء في ألمانيا لرؤساء أنجزوا أشياء كثيرة لبلدانهم يمكن أن يقال عن بقية رؤساء البلدان الأوروبية.
هناك رؤساء وزعماء وقادة اشتهروا كثيرا، حملوا شعارات كبيرة، وكان قد عرفهم العالم كله، ومنهم على سبيل المثال : "عبد الناصر"، و"تشافيز" و"القذافي" و"كاسترو"، و"صدام حسين" رحمه الله، ولكن، وفي المحصلة النهائية، فإن واقع بلدان هؤلاء القادة والزعماء العظام ليس على ما يرام، فنسب الأمية والفقر والتخلف لا تزال مرتفعة في بلدان هؤلاء القادة الذين نالوا من الشهرة ما نالوا.
أما في اليابان، وفي سويسرا، وفي ألمانيا، وفي هولندا فقد حدثت تنمية كبيرة، وقد استطاعت هذه الدول أن تحتل مكانة كبرى من حيث مؤشرات التنمية ومع ذلك فنحن لا نعرف أسماء رؤساء هذه الدول، ولا أسماء قادتها الذي حققوا لبلدانهم كل تلك الانجازات. وفي هذه الدول، وعلى العكس مما هو حاصل عندنا، فإن فكرة الزعامة قد تبدو مجرد فكرة غبية وساذجة.
وبالعودة إلى ألمانيا، وإلى احتفالها بمرور 31 عاما لم تنقطع فيها الكهرباء ولا لدقيقة واحدة عن أي منزل ألماني، فإننا نطلب من الحكومة الألمانية أن تحترم الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، وأن تستثني مقر سفارتنا في "برلين" من عدم انقطاع الكهرباء.
إننا لا نريد أن يُحرم عمال سفارتنا في ألمانيا من فرحة ولذة لا يعرفها الألمان، ولم يتذوقوا لها طعما خلال 31 سنة الأخيرة. إنها فرحة ولذة عودة الكهرباء بعد طول انقطاع، ولو عرف الألمان مقدار تلك الفرحة واللذة لتعمدوا أن يقطعوا الكهرباء عن مدنهم حتى يتذوق شعبهم طعم تلك الفرحة واللذة التي لا يمكن أن يقدر قيمتها إلا من كان قد تذوق طعمها.
لو عرف الألمان مقدار طعم تلك اللذة لسارع أحد العاملين في شركتهم الوطنية للكهرباء إلى إفراغ صهريج ماء في خزان للوقود حتى يلف برلين ظلام دامس، تماما مثل ما فعل ذات مرة أحد العمال في شركتنا الوطنية للكهرباء، وهو ما تسبب حينها في أن يستمر انقطاع الكهرباء لأيام في العاصمة نواكشوط . المسؤول الإعلامي للشركة قال حينها بأن العامل لم يتعمد ذلك، وبأنه كان قد أخطأ بتفريغ صهريج ماء في خزان للوقود، وهذا عذر أقبح من ذنب، ولكن ألا يمكن أن يكون العامل قد فعل ذلك عن قصد، وذلك لكي يذيقنا لذة وفرحة عودة الكهرباء بعد طول انقطاع؟
فكم هو مفرح أن يضيء مصباح في منزل لفه الظلام الدامس لساعات طوال..
وكم هو مفرح أن تعود الكهرباء لحلاق اكتظ محله بالزبناء بعد يوم طال فيه انقطاع الكهرباء..
وكم هو مفرح أن تعود الكهرباء إلى ثلاجة ظن صاحبها بأن ما فيها من مواد سيتلف بسبب طول انقطاع الكهرباء..
وكم هو مفرح أن تعود الكهرباء لغرفة عمليات بمستشفى فيه مرضى بحاجة إلى عمليات جراحية عاجلة..
وكم هو مفرح أن تعود الكهرباء لغرفة نوم ثري من الأثرياء بات يتصبب عرقا في ليلة حارة كثر فيها البعوض..
وكم هو مفرح أن تعود الكهرباء لحاسوب أو لتلفزيون شخص أدمن متابعة الأخبار المحلية والدولية، ومرت به ساعات طوال لم يعرف فيها شيئا مما يدور في هذا العالم..
هذه الفرحة العظيمة التي نتذوقها نحن الموريتانيون في كل حين، لم يتذوقها الألمان خلال 31 سنة الأخيرة..مساكين هم الألمان.
حفظ الله موريتانيا..