لم يكن وعد بلفور المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني (أكتوبر) 1917 سوى باكورة لسيناريوهات رهيبة أعدتها أياد شيطانية، رسمت من خلالها مستقبل بلادنا العربية في الشرق الأوسط؛ فقسَّمت البلاد وباعدت بين العباد، ووضعت على كل قسم سيدا هو منهم وليس منهم. وعلى الرغم من دهاء البلفوريين وأذنابهم، فإن تلك السيناريوهات لم تستطع أن تقسِّم الأقدار وتحقق حلمهم بأرض موعودة، هم أول ناكث بعهودها.
وما أن أُعلن عن هذا الوعد وانتهت الحرب العالمية الأولى حتى نما فجأة كيان مشوه صهيوني، وأخذ من ثم صيتا ودعما وصار دولة مع أن الأساس الذي قام عليه باطل وغير شرعي؛ فالأرض التي قام عليها اُغتصبت من أهلها الفلسطينيين بقوة المال والسلاح ومن جيء بهم من المستوطنين الذين ما أتوا بأنفسهم طائعين إلا بالمغريات وما تفننت الدوائر الصهيونية في رسمه من أساليب الترهيب والترغيب من أجل إقناع وإجبار أكبر عدد من اليهود على القدوم إلى فلسطين. وإلى يومنا هذا والداخل الصهيوني يعاني من انقسامات ومشاكل وأزمات حادة بسبب رفض كثير من اليهود سياسات العزل والتخويف.
واستمر نمو الكيان الصهيوني بدعم القوى الإمبريالية الكبرى علنا وسرا وبشكل منقطع النظير، الأمر الذي جعل الصراع العربي الصهيوني صراعا مصيريا لا نهاية له سوى باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة. وإذا كانت الثورة الفلسطينية الكبرى 1935 على يد الشيخ عز الدين القسام هي أول معركة على لا مشروعية الوعد المشؤوم، فإن معركة طوفان الأقصى 2023 ليست الأخيرة. وما بينهما ثمانية وثمانون عاما كلها نضال وكفاح وصمود فلسطيني. ينبه العالم كل يوم إلى أن قضية فلسطين عادلة وأن الحق سيسترد بالعزم لا بالاستسلام، وأن الكرامة لا تصان إلا بالثبات على المبادئ وليس بالمساومة والتطبيع، وأن ليس للبشاعة والوحشية والتعسف والاضطهاد الصهيوني من رادع إلا بالطوفان الذي فيه تختصر كل سمات البطولة وعناوين النصر ودلالات النضال والجهاد.
وليس الشعب الفلسطيني لوحده في نضاله ضد الكيان الغاصب، بل معه الشرفاء الذين ما انفكوا يدعمون نضاله. وإذا كان الأمر في العقود الماضية قد تم بشكل غير منتظم، فإنه اليوم شديد القوة بما للفضاء الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي من أهمية إعلامية كبيرة في إدامة زخم المقاومة ورسم سيناريوهات لما يمكن أن تكونه معركتنا مع الاحتلال الصهيوني؛ فحربنا حرب وجود مع العدو قبل أن تكون صولات عسكرية على جبهات القتال، وهنا تبرز أهمية دور الفكر والمفكرين ومعهم الثقافة والمثقفون مع وجوب تسخير كل ممكناتنا المتاحة في حرب الوجود الشريفة هذه
مواقف تؤازر وتناصر فلسطين
صحيح أننا لم ننس يوما شعبنا الفلسطيني في صراعه المصيري مع هؤلاء العتاة، لكن المسؤولية باتت أكثر إلحاحا وحضورا الآن. ولقد كشفت معركة طوفان الأقصى عن بسالة الفلسطيني واقتداره بصورة أذهلت العالم قاطبة وجعلت الأعداء يعيدون حساباتهم من جديد، بل إن تطورات هذه المعركة المتسارعة والكبيرة كشفت عن حقائق كانت متدارية في الخفاء قبل الطوفان، فاستيقظ الإنسان العربي من سباته، وراحت مواقع التواصل الاجتماعي تشتعل وهي تنشر ما يشد الأزر ويساند أهل غزة ويدعمهم ويحتفي بهم وبصمودهم الأسطوري بوجه المحتلين الصهاينة.
ولن يغيب عن بالنا أن كثيرا من الأمم والشعوب قبلنا، مرت بظروف الاحتلال والاستيطان الاستعماري لكنها ما أن انتفضت عن بكرة أبيها حتى تغير مسار خططها وتبدلت استراتيجياتها كما في الثورة الفرنسية عام 1789 وثورة الفاتح في تركيا 1920 وثورة العشرين في العراق 1920. فالشعوب لا تتحرر من القهر والطغيان ولا تتمتع بالاستقلال السياسي إلا إذا وعت طبيعة معركتها وحقيقة أهدافها، ما يجعلها قادرة على أن تملك قرارها بيديها وتكون السيادة لها وحدها على أراضيها. فلا ينبغي من ثم أن نستكثر على الفلسطينيين هبتهم المباركة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)؛ ولماذا الاستكثار والشعب الفلسطيني يقاوم طيلة عقود مضت فلا كلَّ ولا توانى، وهو منذ وعد بلفور وإلى اليوم يضمد جراحه بيد ويقاوم باليد الأخرى.
وكل هذه التضحيات تجعلنا نشدد على أهمية الاستمرار في تسخير منصات التواصل الاجتماعي وبشكل قوي لفضح ممارسات الكيان الصهيوني اللاإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني وشجب جرائمه في قتل الأبرياء العزل وتهديم المساكن على رؤوس ساكنيها الآمنين وقصف المستشفيات ودور العبادة ومراكز العلم والمعرفة.
ولن نتخذ من الشكوى طريقا ولا من بقاء الحال على ما هو هدفا، بل نراجع الماضي من النكبة إلى النكسة، ومن الحجارة الى الانتفاضة، كي نرى الواقع الحالي على حقيقته غير متخاذلين عن المواجهة ولا مكتفين بالمراقبة، مشاركين بالكلمة والصورة نبثها على صفحاتنا الافتراضية بمشاعر وعقول واعية، فنعلي صوت الحق متفائلين بأن نصنع تاريخنا بمواقف واضحة غير مهزوزة.
ولقد أدى كثيرون أدوارا قيمة بما نشروه في صفحاتهم على فيسبوك واكس وانستغرام وتليغرام ووتساب وغيرها من كلمات ومواقف وأشعار وهتافات تؤازر وتشجع وتبتهج وتناصر فلسطين وأبطال طوفانها الأقصى. وما من محنة سوى محنة أولئك المتجهمين العابسين الذين لا يريدون أن يروا فلسطين محررة وأهلها ظافرين غانمين. ونحن لا نؤنب هؤلاء المشككين اليائسين ولا نخونهم لكننا نقول إنها روح الاستسلام والتسليم ونزعة التكدر واليأس واعتياد الفتور والقبول بالحال على ما هو عليه، ورفض أي تغيير يأتي عن آمال أو أحلام.
ولنطمئن أولئك الذي غشيتهم الريبة وفعلت بهم الظنون فعلها أن علينا ألا نقطع في الأمور قبل أن نستبين حقائقها. وأننا سنظل نتطلع إلى ذاك اليوم الذي فيه ينتصر الحق على الباطل فتستعيد فلسطين سيادتها الكاملة على أراضيها.
*كاتبة من العراق