نجحت حماس في تحقيق ما عجزت عنه روسيا: مَحتْ أوكرانيا وحربَها من الخريطة الإعلامية. موجهة بذلك وبدون قصد ضربة موجعة للإدارة الأمريكية. كما أنها حولت الأنظار إلى غزة وفلسطين عما يدور من أزمات في مناطق أخرى من العالم.
وبوصفي شخصيا مهتما بالقضايا الاستراتيجية والجيوسياسية، وخاصة تلك التي لها صلة مباشرة ببلدي- موريتانيا- بسبب القرب الجغرافي، فلم ينج نظري من إعادة تصويبه من منطقة الساحل إلى جريمة إبادة الفلسطينيين الفظيعة التي يرتكبها الآن النظام الصهيوني المتطرف بمباركة ودعم كاملين من الرئيس الأمريكي و"متصهينين" آخرين من إدارته وحلفائه مثل وزير خارجيته والرئيس الفرنسي وغيرهما.
ضلوع واضح في جرائم الحرب، فماذا عن جرائم البيئة؟
تَروِي وكالة انباء (Associated Press) عن جو بايدن قوله عام 1999 حين كان سيناتورا:
"إنني صهيوني في القلب".
وردا على هجوم حماس المفاجئ في 07 اكتوبر الجاري، ونتائجه الكارثية على إسرائيل، فقد بادر فورا إلى التأكيد على أن "دعم امريكا لإسرائيل راسخ وثابت".
الآن، وبعد شهر من ردة الفعل العسكرية الإسرائيلية، البشعة والهمجية، هلَّا يمكن اعتباره ضالعا بقوة في جرائم شديدة، بعضها واضح في القانون الدولي وبعضها في طريقه إلى التوضيح؟
جرائم الإبادة وجرائم الحرب، هذا باختصار هو ما تقوم به اسرائيل في قطاع غزة. إبادة تتخذ جل الأشكال الممكنة للجريمة كما تصنفها أدبيات القانون الدولي: التقتيل، التعذيب، التهجير، التجويع، منع الماء والدواء... هذا بالإضافة إلى ارتكاب جرائم حرب من بينها استخدام أسلحة فتاكة ممنوعة دوليا، مثل: القنابل العنقودية، قنابل الفوسفور الأبيض، قنابل اليورانيوم المنضب... إلخ.
أما استخدام الحرائق المتعمدة للغابات والغطاء النباتي كسلاح فهو تكتيك تريد إسرائيل من ورائه منع المقاتلين الفلسطينيين من وسائل التمويه الطبيعية المتوفرة على الميدان. وهذه جريمة بيئية لا ينبغي السكوت عليها، حتى وإن كان القانون الدولي، مع الأسف، ما زال لا يخلو من العيوب والنواقص في هذا المجال. وما تقوم به قوات الاحتلال الصهيونية من تدمير للبيئة في غزة وساحات القتال المختلفة التي فتحت- أو فُتحتْ عليها- في المنطقة (في فلسطين، في لبنان، في سوريا...) يشكل فرصة لإعادة نظر المجموعة الدولية في الموضوع. وطبعا فإن الولايات المتحدة بوصفها الممد الأول لإسرائيل بالعتاد والأسلحة المستخدمة في تدمير الوسط البيئي ضالعة في الجريمة. وليست أول مرة يُذكر فيها اسمها في هذا الشأن. فقد كان "العم سام" سباقا في استخدام تدمير البيئة كسلاح حرب منذ أصبحت الولايات المتحدة أعظم قوة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. إذ أن القوات الأمريكية استخدمت مواد كيميائية تؤدي إلى تساقط أوراق الشجر خلال حربها ضد الثوار الفيتناميين. فقد رشَّ الطيران العسكري الأمريكي الغابات والمزارع الفيتنامية ب 80 مليون ليتر من مبيد يسمى ’’ العامل البرتقالي" بغية محو الغابات التي يختفي فيها الفيتكونغ وتدمير المحاصيل.
ربما قد ينسى اليوم جو بايدن من وقت لآخر، بسبب تقدمه في السن، تلك الجريمة التي ارتكبها بلده على نطاق واسع لأكثر من 10 سنوات: من 1964 حتى 1975. حينها كان الرئيس الأمريكي الحالي طالبا في الجامعة ثم شابا في الخطوات الأولى من مشواره السياسي. ولا تشير المعلومات المتوفرة لدينا إلى أي دور له في العملية ولا في حرب فيتنام. بل على العكس: يبدو أنه في تلك الفترة عمل ما بوسعه- ونجح- في أن يُعفَى من الخدمة العسكرية من أجل مواصلة تكوينه الجامعي.
تعويضٌ وتدويرٌ...
ربما يتخيل الرئيس الامريكي اليوم أنه سيجد في اندفاعه الأعمى إلى جانب إسرائيل تعويضا عن تقاعسه خلال حرب فيتنام. وبهذا يكون قد التحق بسابقيه من مجرمي الحرب ومدمري البيئة الذين جلسوا على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض خلال تلك الحرب التي تغيب عنها.
إلى أي حد سيعينه استحضار وتدوير ماضيه المريب خلال حرب فيتنام في صراع الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
من المعلوم أن التعامل مع الأوضاع والمتغيرات السياسية الداخلية يقع على سلم العناصر الرئيسية الحاسمة في اختيار الناخب الأمريكي بينما تقع السياسة الخارجية في درجة دون ذلك. إلا أن أمن ومكانة إسرائيل في الرأي العام الأمريكي بقيا حتى عهد قريب لا يقلان وقعا على المواطن عن تأثير السياسة الداخلية. لأن قوة اللوبيات الحاملة لراية الكيان الصهيوني ومصالحه في أمريكا ظلت منذ انشاء دولة إسرائيل تشكل قوة ضاغطة كبيرة يتسابق المتنافسون السياسيون على الحصول على ولائها ودعمها. والرئيس بايدن، البالغ 80 سنة من العمر، عايش الدولة اليهودية منذ نشأتها وما رافقها من دعم داخلي في الولايات المتحدة لا يتوفر لأي دولة أخرى غيرها. في حين بقيت بلاده تحتل مرتبة القوة العظمى الأولى ذات النفوذ والهيمنة المسيطرين على موازين القوى العالميين طيلة العقود الستة أو السبعة الماضية. وهذا التصور المزدوج يشغل عقله الخارف بدرجة لا تترك سبيلا لغير ربط قوة النفوذ الأمريكي وديمومته بأمن دولة إسرائيل وديمومتها. فهكذا نراه اليوم يكرر ما صرح به عام 1986 أمام رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، حيث قال وهو في زيارة لإسرائيل ضمن وفد من مجلس الشيوخ:
" لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترع إسرائيل".
ثم أضاف، محددا المبلغ المالي الذي كلفته صناعتهم الثمينة:
"إسرائيل هي أفضل استثمار قمنا به بقيمة 3 مليارات دولار".
تجاوزته الأحداث، أم يجدف ضد التيار؟
فعلا، يلاحظ مراقبون متابعون عن قرب للرئيس بايدن بأنه يعاني من فقدان للذاكرة قد يعيق تزايُده بدرجة متنامية قدراتِه على تحيين المفاهيم وعلى التكيف السليم مع مستجدات الأوضاع الجيوسياسية. فيُخشى في هذه الحالة أن تنطبق عليه، فيما يعني ارتباطه بإسرائيل، قصة الأعمى الذي كان أخر ما رآه فأرا قبل أن يكف الله بصره، وبقي الفأر آخر معلم حاضر في ذاكرته، ويتكرر دائما على لسانه كلما بحث عن الطريق قائلا: "أين تقع بالنسبة للفأر؟"
وهكذا يبدو أن جموده الفكري يوهمه بأن تعلقه اللامتناهي بإسرائيل (الفأر) منذ زمن طويل هو الأداة الفعالة التي لا غنى عنها لضمان أمان وقوة بلاده، كما كان يقول لرئيسة الوزراء جولدا مائير، السابق ذكرها. وهذا تصور لا يصمد كثيرا أمام أي نظرة متبصرة، ولو خاطفة، للتقلبات في موازين العلاقات الدولية التي يعيشها العالم اليوم. لكن جو بايدن لا يبدو مدركا أن انفراد بلاده بالأحادية القطبية قد ولى عهده إلى غير رجعة ولن تعيده لهم اسرائيل مهما استثمر فيها: نفوذ الولايات المتحدة والغرب في تقهقر مطرد بينما تستعيد روسيا قوتها وتكشر الصين عن انيابها كقوة عظمى منافسة لهم في الأمتار الأخيرة من سباقها مع الولايات المتحدة من أجل المركز الأول على سلم القوى العالمية. في حين تبرز دول أخرى تشكل قوى صاعدة متزايدة: البرازيل، تركيا، الهند... إلخ. كان على الإدارات الامريكية خلال العقدين الأخيرين التكيف مع هذه التحولات الجيوسياسية العالمية المتجددة ومواكبتها حتى لا تتخلف عن الركب. وهذا ما أدركه إلى حد ما الرئيس السابق باراك أوباما. لكنه يعترف هذه الأيام خلال ردود فعله على ما تقوم به إسرائيل وحلفاؤه الغربيون من إبادة جماعية في غزة، بأنه لم يفلح في جهوده بسبب الكثير من اعوانه ومن الفاعلين السياسيين الامريكيين.
ومن بينهم من جلسا على التوالي بعده على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، حيث سارا في منحى مغاير. رونالد ترومب لم يأبه بما تقتضيه تطورات موازين القوى العالمية الجديدة، بل تجاهلها وانخرط في اتجاه معاكس، محاولا عبثا الإبقاء على هيمنة وترسيخَ العنصر الأبيض في الولايات المتحدة، كما هو حال اليمين المتطرف في الغرب عموما. وكان من أشد الرؤساء الأمريكيين دعما لليمين المتطرف في إسرائيل واطروحاته، كما تشهد على ذلك قراراته المتطرفة: اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، قطعه التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( UNRWA[i])، انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران...إلخ.
أما جو بايدن، "العجوز الخارف"- كما يصفه ترومب، فنراه منذ عملية "طوفان الأقصى"، هو الآخر، يغازل اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عبر دعمه الأعمى لإسرائيل، بينما كان يُنتظر منه ألا يسير على خطى خصمه السابق في الانتخابات الرئاسية وربما خصمه اللاحق أيضا في الانتخابات المقبلة. لا شك أنه يتصور دائما أن التقيد الماترشحين بمصالح وأمن إسرائيل له دور حاسم في اختيار الناخب الأمريكي. بينما الأمرهنا قد لا يكون كما كان عليه سابقا: المظاهرات الشعبية في المدن الامريكية، وفي غيرها، وكذلك حركات وتيارات المجتمع المدني عبر العالم، المناوئة لسياسة الإبادة الحالية لسكان غزة... كلها تشكل عوامل تغيير قوية تشي بتقلبات لا يستهان بها في الرأي العام الأمريكي والرأي العام في أوروبا والغرب عموما. هل العجوز بايدن تجاوزته الأحداث لحد جعله لا يفقه إلا القليل في هذه التحولات المتمثلة في حركة غير مسبوقة للرأي العام الأمريكي والعالمي وفيما تتغذى عليه من تغيرات في موازين القوى والنفوذ على الساحة الدولية؟ أم أنه يحاول أن يجدف ضد التيار رغم علمه بصعوبة المهمة وما تحمله المناورة من مخاطر سياسية قد تكون قاتلة؟
رغم الثمن الغالي، الفلسطينيون هم الرابحون...
في كلتا الحالتين، فإن حرب غزة الراهنة تضع السياسة الامريكية ومن يسيرون خلف رئيسها من الحلفاء على محك صعب دفع الفلسطينيون- وحماس بصورة خاصة- ثمنا غاليا مقابله. غير أن هؤلاء لا يخسرون شيئا. بل على العكس، فأيًا كانت النتائج العسكرية للحرب من حيث عدد القتلى والجرحى وكمية الدمار ونوعه... لدى طرفي الصراع، فهم الغالبون على الصعيدين والمعنوي والسياسي بصورة تتجلى في عدة مكاسب نذكر منها:
1. عملية "طوفان الأقصى" والمقاومة الشرسة للمقاتلين الفلسطينيين- التي تبعتها- بينتا بطلان الدعاية الصهيونية الشائعة والقائلة بأن "الجيش الإسرائيلي لا يُقهر"؛
2. الدفع الذي شهده مؤخرا تيار "التطبيع" في بعض الدول العربية لقي ضربة قوية سوف يتعثر بسببها بدرجة ولفترة لا يستهان بهما.
3. جميع العوامل السابقة الذكر بدأت، مجتمعة، تحرك القضية الفلسطينية بصورة غير مسبوقة منذ حرب اكتوبر 1973. ولا يخامرني شخصيا شك في أن اختيار 07 أكتوبر لبدْء "طوفان الأقصى" لم يتم صدفة. بل هو تذكير ببداية تلك الحرب التي حققت فيها جيوش عربية أول انتصار عربي على إسرائيل. ومن هذا المنظور التاريخي، استسمح لنفسي بأن أتصور بأن اليوم الذي كان مقررا لبداية "طوفان الأقصى" هو 06 بدلا من 07 أكتوبر، غير أن ظروفا طارئة ربما دفعت بقيادة العمليات العسكرية في حماس إلى تأجيل الموعد بيوم.
ورغم التقاطع بين الحربين، من حيث نتائجهما العسكرية المريرة بالنسبة لإسرائيل، فإنهما تختلفان من عدة نواحي؛ أهمها كون حرب أكتوبر قامت بها جيوش نظامية منتشرة على حدود فلسطين: الجيش المصري، الجيش السوري، الجيش الأردني... ونالت حكوماتها دعما دبلوماسيا واقتصاديا فعالا من الدول العربية كان استخدام النفط كسلاح أهم أدواته. أما الآن، فإن الطرف العربي في القتال يقتصر على فصائل مقاومة غير حكومية، أساسا فلسطينية، تستفيد لحد ما من عمليات عسكرية محدودة يقوم بها حزب الله بغية "مشاغلة" الجيش الأسرائيلي على حدود لبنان وكذلك عمليات أخرى متقطعة أقل إضرارا تأتي من جهة الحوثيين.
أما دعم الدول والجيوش العربية، فآخر عهد به يعود إلى نصف قرن مضى. ولا غرو! فالعديد من الجيوش العربية وحكوماتها مشغولة بأزماتها وحروبها الداخلية بينما الدول المجاورة لها تعاني من الآثار السلبية لما يجري على حدودها: في السودان، في اليمن، في سوريا، في العراق، في الصحراء الغربية... إلخ.
4. الأوضاع السيئة للعالم العربي لا تدعو إلى التفاؤل، كما بينا، فيما يعني عملا مسلحا مشتركا. ويُستشف منها، ومما يجري في غزة، أن الفلسطينيين هم من يحملون قضيتهم أولا وأخيرا. فها هي شهدت منذ 07 أكتوبر الماضي تحريكا غير مسبوق هم وحدهم صانعوه. فعساه أن يشكل أيضا نقطة انطلاق للحمة الصف والوحدة فيما بينهم.
وحينها سوف يتحول التحريك إلى تحرير. تلك هي المرحلة القادمة. وكلنا ننتظرها بفارغ الصبر.
عقيد (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)