جانب الكثيرون الصواب حين اعتقدوا أنّ سلافوي جيجيك، الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني الشهير، قد بلغ ذروة قصوى في العروض الفلسفية البهلوانية حين «أفتى» بوجوب انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، سنة 2018. لكنّ موقفه من العدوان الإسرائيلي الهمجي الحالي ضدّ قطاع غزّة وسكانه الفلسطينيين كان مناسبة جديدة للتأكد من أنّ جيجيك بدأ، ويستحق باضطراد، استعارة «إلفيس برسلي الفلسفة»، في إحالة إلى شخصية المغنّي الأمريكي الراحل المقترنة بالاهتزاز والنواس والتذبذب؛ ولجهة التحقّق الدائم لمنهجية الرجل في مزج فلسفة هيغل بالنكتة القديمة السلافية أو اليهودية، وخَلْط طرائق التحليل النفسي عند الفرنسي جاك لاكان بفيديوهات السخرية من الألبان والبوسنيين.
وثمة ما يُغضب بالفعل، أو هو بالأحرى أشبه بدعوة إغضاب مفتوحة، تبدأ من إلصاق توصيف «البربرية» بأفعال «حماس» وتنتهي إلى «التشدّد» لدى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو؛ وبالتالي فإنّ هذا الخيار في المقارنة لن يرضي «جمهور» جيجيك على الضفتَين، الفلسطينية/ اليسارية والإسرائيلية/ اليمينية. الضحية الفلسطينية، التي تجاوزت أعدادها 7000 ثُلثهم على الأقلّ من الأطفال، مضيَّعة ومكمَّمة ومعوَّمة تحت هذه المقولة الفضفاضة من المقارنة الرخوة؛ وليس لأية خلاصة فعلية أن تبيّن الفارق بين القاتل الإسرائيلي الذي يقود القاذفة في سماء غزّة، والقتيل الفلسطيني على الأرض وفي المشافي والمخابز والمساج
والإسرائيلية/ اليمينية. الضحية الفلسطينية، التي تجاوزت أعدادها 7000 ثُلثهم على الأقلّ من الأطفال، مضيَّعة ومكمَّمة ومعوَّمة تحت هذه المقولة الفضفاضة من المقارنة الرخوة؛ وليس لأية خلاصة فعلية أن تبيّن الفارق بين القاتل الإسرائيلي الذي يقود القاذفة في سماء غزّة، والقتيل الفلسطيني على الأرض وفي المشافي والمخابز والمساجد.
فإذا غادر المرء أرض فلسطين واستعاد «فتاوى» جيجيك حول سوريا، مثلاً، كما تضمنتها مقالة شهيرة بعنوان «سوريا صراع زائف»، نشرتها صحيفة الـ«غارديان» البريطانية، فسيكون التالي هو الحصيلة عملياً: «حسناً، هنالك دكتاتور سيء يستخدم (كما زُعم) الغاز السامّ ضدّ سكان دولته ذاتها ـ ولكن مَن الذي يعارض نظامه؟ يبدو أنّ ما بقي من المقاومة الديمقراطية ـ العلمانية غارق الآن، كثيراً أو قليلاً، في فوضى المجموعات الإسلامية الأصولية». وفي المقابل، واستكمالاً للصورة الموازية، على جانب النظام، يتابع جيجيك: «سوريا بشار الأسد ادّعت أنها دولة علمانية على الأقلّ، ولهذا فلا عجب أنّ المسيحيين والأقليات الأخرى تميل اليوم إلى الاصطفاف معه ضدّ المتمردين السنة».
تلك كانت حصيلة لأنّ جيجيك التزم الصمت خلال 30 شهراً من وقائع الانتفاضة الشعبية السورية، حين كان الحراك الشعبي سلمياً تماماً وقبل لجوء النظام السوري إلى إطلاق غلاة الإسلاميين من السجون في ترخيص لتأسيس هذه أو تلك من التنظيمات الجهادية المسلحة؛ ثمّ خرج بـ«فورمولا» تبسيطية مسطحة وسطحية، أسوأ من الكليشيهات الأردأ التي ساقها النظام ذاته في توصيف المشهد السوري بعد آذار (مارس) 2011. وهي التوليفة التي تتيح له إغماض العقل عن حقيقة أنّ الأسد «علماني» زائف، وريث نظام قام على التزلف للأديان وتجنيد الطوائف واعتماد سياسات التمييز والتفريق والمحاباة، وبالتالي فهو ليس محض «دكتاتور سيء»، بل في عداد أشرس طغاة عصرنا.
ليس أقلّ فضائحية أنّ جيجيك أعاد النظر في أطروحاته السابقة، والمبكرة التي اقترنت بانتفاضتَيْ تونس ومصر تحديداً، حول الدور «التحرري» الذي يمكن أن يلعبه الإسلام السياسي. فهو، بصدد سوريا بالأمس وفلسطين اليوم، لا يرى ديناميات حضور التيارات الإسلامية في قلب قواعد شعبية لا تمارس التحزّب فقط، بل تنحرط فعلياً في مستويات شتى من الاجتماع السياسي والاقتصادي والتنظيمي؛ بمحاسنها ومساوئهاـ وبامتيازاتها ومظانّها.
وخذوا خاتمة التوليفة: «قد يبدو هذا طوباوياً، ولكنّ الصراعين [الإسرائيلي والفلسطيني] قطعة واحدة. في وسعنا، وعلينا بلا تحفظ، مساندة حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات الإرهابية. ولكن علينا أيضاً وبلا تحفظ أن نتعاطف مع الظروف اليائسة حقاً التي يواجهها الفلسطينيون في غزّة والأراضي المحتلة».
مساندة، إذن، مقابل تعاطف؛ حيث هذه الواجهة الأخلاقية، التبسيطية والابتسارية والاختزالية، لا تُسقط فقط الموازين الأوضح بين الحقّ والباطل والمسؤوليات الدنيا تجاه جرائم الحرب الإسرائيلية، وإنما تشدّد مجدداً على شخصية جيجيك: «الفيلسوف» الهزّاز الراقص