منتصف شهر إبريل/نيسان من العام الجاري، غطت بقع سوداء مساحات شاسعة من المياه الإقليمية الموريتانية، مما أدى إلى نفوق أحياء بحرية، بعضها نادر، كالسلاحف البحرية، والدلافين، وأنواع من الأسماك.
ورغم مرور أكثر من أربعة أشهر على حادث التلوث، الذي وصفه الوزير الأول الموريتاني، يحيى ولد حدمين، في تصريحات لوسائل الإعلام الرسمية بأنه "تلوث كبير"، كما وصف الخسائر المترتبة عليه بـ"الكثيرة"، لا يزال الجدل والخلاف قائما إلى اليوم حول أسباب التلوث، ومصدره الرئيسي، ومدى قابليته للتكرار، والمخاطر التي يمكن أن يسببها لموريتانيا ولثروتها السمكية التي تشكل 25% من الناتج الخام الموريتاني، و40% من مصادر العملة الصعبة في البلاد.
مصادر تلوث متعددة
أربعة مصادر رئيسية لتلوث المياه الإقليمية الموريتانية، حصرها ووثقها الخبراء، الذين التقاهم "العربي الجديد"، لكن أكثرها خطورة
ـ سفن عمالقة النقل الدولي:
كما يقول مستشار وزير الصيد الموريتاني، محمد سالم لولي، مضيفا أن المياه الدولية القريبة من موريتانيا تعرف باستمرار حركة كثيفة للسفن الدولية حاملة الوقود، وتقوم هذه السفن بتفريغ خزاناتها وتنظيفها في هذه المياه الدولية، رغم تجريم القوانين الدولية لذلك.
ويجزم مستشار وزير الصيد الموريتاني في حديثه مع"العربي الجديد" بأن "وقود هذه السفن هو السبب في تلوث المياه الموريتانية"، مؤكدا في الوقت ذاته "تمكّن موريتانيا من تنظيف كل المناطق، التي تعرضت للتلوث".
المسؤول الموريتاني يؤكد استعانتهم بمكتب خبرة فرنسي مختص في هذا المجال، لتحديد السفن التي تسرب الوقود في المياه الموريتانية، مؤكدا امتلاكهم لإحداثيات وأرقام ومعلومات عن كل السفن التي تمر بالمنطقة، ملمحا إلى حاجة موريتانيا لجهود مضاعفة من أجل مواكبة حركة السفن الدولية، ومشيرا إلى القدرات الكبيرة التي قطعها الأوروبيون في هذا المجال من خلال مراقبة مياههم بالأقمار الصناعية، وطائرات الهيلكوبتر، وإيقاع عقوبات رادعة على السفن التي تسجل عليها مخالفات.
واعترف ولد لولي بإمكانية تكرار حادث تسرب الوقود إلى المياه الإقليمية الموريتانية، الذي وقع مؤخرا، في منطقة عرفت باسم "منتزه السلطانة" إلى ميناء الورف، ومنها امتدت لأكثر من 200 كلم في المياه الإقليمية الموريتانية، نظرا لكثافة حركة السفن الدولية في المنطقة، وصعوبة مراقبتها بشكل دائم، مردفا أنها لو وقعت في ظروف عادية ولم تتصادف مع السفينة الروسية، لما أخذت كل هذا الاهتمام.
ـ البحث عن الغاز والبترول:
تعتبر عمليات التنقيب المتزايدة، بحثا عن الغاز والبترول، ثاني أهم أسباب تلوث المياه الإقليمية الموريتانية، وهو ما يؤكد الصحافي المختص في مجال البيئة البحرية، جدنا ديده، أنه كان وراء عملية التلوث الأخيرة، مردفا أن كل المؤشرات والأدلة تشير إلى ذلك، معتبرا أن السلطات الموريتانية لم تواكب المرحلة الاقتصادية الجديدة بما يتطلبها من احتياطات في المجال البيئي.
ويطالب ولد ديده في حديثه مع"العربي الجديد" السلطات الموريتانية بإلزام الشركات العاملة في مجال التنقيب، بما يعرف بالمسؤولية الاجتماعية تجاه موريتانيا والعالم، وفرض قواعد صارمة عليها في مجال حماية البيئة، تضمن تفادي الخطر، وعدم تعريض مستقبل شعب كامل للمجهول، خصوصا وأن قطاع الصيد يشكل أحد الأعمدة الأساسية في الاقتصاد الموريتاني.
ورأى ولد ديده أن مما يدعم فرضية أن التنقيب هو سبب حادثة التلوث الأخيرة؛ ما مارسته السلطات من تعتيم على الملف، إذ لم تعلن إلى اليوم نتائج التحقيق الذي قامت به، معتبرا أن إعلانها أن عمليات التنقيب كانت وراء التلوث سيكون له تأثيره على الشركات العاملة في هذا المجال، وعلى علاقاتها بالسلطات الموريتانية.
ويشير ولد ديده إلى أن حادثة التلوث حملت عدة رسائل صارخة، كانت أبرزها فشل الخطة المعروفة بـ"بولمار"(خطة دولية لمواجهة التلوث في البحار، ولها لجان فرعية في كل دولة، إحداها في موريتانيا)، فقد فشلت في استشراف التلوث، كما تبين عجزها عن التدخل السريع في حال وقوع كوارث بيئية.
ـ زيوت أسطول الصيد:
مصدر ثالث يشكل هو الآخر أحد المخاطر المحدقة بالبيئة البحرية الموريتانية، وهو الزيوت العادمة التي تفرغها سفن أسطول الصيد العاملة في المياه الإقليمية الموريتانية، والذي يتجاوز عدد سفنه 200 سفينة.
ويرى النائب البرلماني والمهندس البحري، حمدي ولد إبراهيم، أن هذه السفن تفرغ سنويا في المياه الإقليمية الموريتانية أكثر 367 ألف لتر من الزيوت العادمة، وهو ما يعرض المياه للتلوث، ويشكل خطرا على الأحياء البحرية.
ويقول ولد إبراهيم – وهو نائب برلماني عن حزب "تواصل" المعارض – أن متوسط ما تفرغه السفينة الواحدة من الزيوت بين كل رحلتين (45 إلى 60 يوما) هو 300 لتر من الزيوت، وهو ما يجعل الحصيلة السنوية تصل إلى 367200 لتر، تفرغ كلها في المياه بسبب انعدام آليات تفريغ زيوت السفن في الموانئ الموريتانية.
ويضيف ولد إبراهيم في حديث مع"العربي الجديد" أنه نبه السلطات الموريتانية إلى هذا الخطر قبل حادثة التلوث الأخيرة، غير أنها لم تعر الأمر اهتماما رغم تهديده قطاعاً يشكل عمادا للاقتصاد الموريتاني.
ـ مقابر السفن "المُغرَّقة":
يؤكد خبراء أن وقود وزيوت السفن، التي يتم إغراقها سنويا في المياه الإقليمية الموريتانية، تعد من أهم أسباب تلوث المياه الإقليمية الموريتانية، إذ يقوم ملاك السفن، بإغراقها رغبة في الحصول على مقابل تأمينها من الشركات الغربية المؤمنة لها.
ويؤكد البرلماني ولد إبراهيم أن نسبة 90% من حوادث السفن، التي تسجل سنويا في المياه الموريتانية هي حوادث متعمدة، قصد أصحابها التخلص من السفن للحصول على مقابلها من شركات التأمين، مردفا أن السفن يتم إغراقها بوقودها وزيوتها، وهو ما يعرض البيئة البحرية للتلوث.
ويرى البرلماني أن محدودية قدرات الجهات الرقابية في موريتانيا تضاعف من مخاطر التلوث، إذ لا توجد هيئة رقابية تعنى بمتابعة ملف التلوث، معتبرا أن هيئات الرقابة البحرية الحالية تركز جهودها على مخالفات الصيد، وعلى فرض الغرامات على السفن المخالفة، ولا يعير موضوع التلوث كبير اهتمام، رغم أنه، يضيف البرلماني، أخطر من مخالفات الصيد غير المشروع.
ويطالب ولد إبراهيم بضرورة إيجاد آليات تسمح للسفن بتفريغ زيوتها العادمة في الموانئ الموريتانية، على غرار كل الموانئ في العالم، معتبرا أن انعدامها في موريتانيا يجعل الخيارات محدودة أمام أسطول سفن الصيد العاملة في موريتانيا، حيث ستفرغها في المياه بشكل مباشر.
وزارة البيئة تتهرب
سعى "العربي الجديد" لاستطلاع رأي وزارة البيئة والتنمية المستدامة في موريتانيا حول الموضوع، غير أن الوزارة تهربت من التعليق عليه، كما تكرر الأمر مع الإدارة المعنية بالبيئة البحرية. بعد جولات عديدة بين مصالح وإدارات الوزارة أكد مسؤولون فيها لـ"العربي الجديد" أن الموضوع يدخل في اختصاص وزارة الصيد، ولا علاقة لوزارة البيئة به.
نقلا عن العربي الجديد بتصرف