السودان.. التطبيع، وجدلية الاستراتيجيا والسوسيولوجيا / الدكتور إياد البرغوثي

أحد, 06/11/2023 - 09:46

لا اخفي، أن ما دفعني للكتابة حول السودان، ليس الحقائق المادية، ومنها ما له علاقة بالاستراتيجيا التي تربط بين فلسطين والسودان فقط، بل ما يشي به ذلك التعاطف الكبير بين السودانيين والفلسطينيين، بشكل أكبر بكثير مما يعتقد كثيرون، بمن فيهم فلسطينيون وسودانيون. باعتقادي أن اكثر من فهم ويفهم هذا الترابط بين فلسطين والسودان هم الاسرائيليون، الذين عملوا وما زالوا على زعزعته بشكل أو بآخر.

في اللقاءات العديدة التي جمعتني مع صديقي السوداني عثمان، كان الأصدقاء الآخرون يتندرون علينا بقولهم "التم المتعوس على خايب الرجاء". كنا نقبل ذلك "الحكم"، دون أن نفكر كثيرا في مدى واقعيته، ودون أن نجهد انفسنا في تحديد من منا "المتعوس" ومن هو "خايب الرجاء"، الى أن التقينا آخر مرة بعد "الثورة" الأخيرة في السودان، وما جرى من "تطبيع" للعلاقة مع إسرائيل، عندما قال لي عثمان، صاحب الصوت المرتفع عادة، بصوت خافت يحمل الكثير من مشاعر الاعتذار... "خان المتعوس خائب الرجاء يا صديقي"، حينها فقط تحددت المعاني، وأصبح واضحا أن المتعوس هو السودان، وأن خائب الرجاء هو فلسطين، على الأقل في هذا السياق.

لم نعرف نحن أبناء المشرق العربي الكثير عن السودان والسودانيين، رغم العاطفة الكبيرة بيننا كما قلت. كل ما عرفناه عن ذلك البلد المترامي الأطراف، هو ما جاء في درس الجغرافيا أنه "سلة غذاء" العالم العربي، اضافة الى الانطباع الذي اخذناه من السينما المصرية - سامحها الله- من أن السوداني هو بواب العمارة "الظريف وخفيف الدم" في أفلام الستينات والسبعينات. ربما بسبب ذلك، تفاجأت عندما زرت جنيف، وعلمت أن الفندق الذي نزلت فيه يملكه سوداني، وأن الجالية السودانية هناك من أنجح الجاليات.

القيمة الاستراتيجية للسودان
ولكي تكون صورة ما نتحدث عنه اكثر وضوحا، فإن دولة السودان، التي هي جزء مما يسمى تاريخيا اقليم السودان، الذي يمتد من البحر الأحمر عبر تشاد والنيجر ومالي والحدود الجنوبية للجزائر الى موريتانيا، وحيث تختلط القبائل العربية والافريقية، هي دولة في غاية الأهمية استراتيجيا، بسبب موقعها الاستثنائي، حيث تعتبر "بوابة" آسيا وافريقيا، وثرواتها غير المحدودة.

اصبحت مساحة السودان بعد أن فقد ثلث اراضيه بانفصال دولة الجنوب (التي تبلغ مساحتها مجموع مساحة العراق وسوريا ولبنان) مساوية لمساحة المانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا مجتمعة. بعد الانفصال اصبحت ثالث دولة عربية وافريقية من حيث المساحة، بعد أن كانت اكبرها قبل ذلك.

والسودان دولة لها حدود مع سبع دول هامة؛ مصر وليبيا وتشاد وجنوب السودان واريتريا واثيوبيا وافريقيا الوسطى، يقابلها على الشاطىء الآخر للبحر الأحمر السعودية واليمن بكل ما لهذين البلدين من اهمية.

تمتد شواطيء السودان على البحر الأحمر مسافة 850 كم. هذا يجعله في وضع يتحكم فيه بأمن البحر الأحمر الذي يعني باب المندب وقناة السويس، طرق التواصل بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، كما يتحكم بأمن القرن الافريقي البالغ الأهمية.
وبسبب نهر النيل الذي يقطع السودان من جنوبه الى شماله، يعتبر دور السودان حاسما في موضوع الأمن المائي للمنطقة خاصة لمصر.

كما للسودان أهمية كبيرة بالأمن الغذائي للمنطقة، فبالاضافة للمساحات الشاسعة الصالحة للزراعة، تلك الاراضي التي بدأت دول خليجية خاصة السعودية والإمارات تستثمر بها بشكل واسع، توجد ثروة حيوانية ضخمة، رغم أن نسبة كبيرة منها لا تضيف كثيرا للاقتصاد السوداني، كونها لا تستخدم الا كمؤشر على القيمة الاجتماعية لمالكيها قبائلا وافرادا.
كما يملك السودان ثروة معدنية ضخمة وفي مقدمتها الذهب، الذي يشكل أحد اسباب الصراع الحالي بين الزعامات السودانية.

سوسيولوجيا السودان
يتشكل المجتمع السوداني بالأساس من قبائل عربية وأخرى افريقية، تدين اكثريتها بالاسلام اضافة الى نسبة من المسيحيين والوثنيين. كثير من القبائل ذات الأصول الأفريقية فلاحون يعملون في الزراعة، في حين تعمل القبائل العربية، التي ذكرنا أنها تمتد خارج حدود السودان الى تشاد والنيجر ومالي، في رعي الماشية.

من البديهي أن تكون العلاقات بين المزارعين والرعاة متوترة، وتزداد الأمور تعقيدا عندما تتعدد الهويات الاثنية والدينية لكلا الطرفين، حيث "يتصارع" الرعاة المسلمون ذوي الأصول العربية، مع الفلاحين الأفارقة المتعددي الانتماءات الدينية، فيأخذ الصراع طابعا هوياتيا وفكريا من الصعب السيطرة عليه. هذا الشكل المعقد من الصراع، هو الذي ساد في اقليم دارفور ابتداء من 2003. هناك شعرت القبائل "العربية" بالضعف أمام القبائل "الأفريقية"، فقامت الحكومة المركزية في الخرطوم، التي اعتبرت القبائل العربية امتدادها الطبيعي، بالانتصار لتلك القبائل، فأسست مليشيات الجنجويد، التي انبثقت لاحقا عنها قوات الدعم السريع لمحاربة "المتمردين". كان ذلك من أجل أن تجد الحكومة انصارا لها في تلك القبائل، فتعمق الشرخ بين الحكومة وجزء هام من الشعب، وبين مكونات الشعب نفسه.

كثيرا ما كان التعامل الخاطيء للنظام مع الهويات المتعددة في السودان، ولجوئه "المشبوه" للشريعة الاسلامية لتعويض التآكل في شرعيته، يشكل دافعا لعدم استقرار البلد، وذهابه في بعض الأحيان الى حروب اهلية، وإلى الانفصال كما حدث مع الجنوب.

لقد "تبنى" نظام النميري وهو القومي والاشتراكي في بداياته، الشريعة الاسلامية للتصدي لخصومه، في نفس الوقت الذي قام فيه بالتآمر مع إسرائيل لتسهيل نقل الفلاشا الاثيوبيين الى إسرائيل عن طريق السودان.

وبعد انقلاب المشير سوار الذهب على النميري في العام 1985، ومجيء الحكم المدني بعد ذلك، استولى الفريق عمر البشير على الحكم بدعم من الجبهة الاسلامية بقيادة الترابي، وفرض الشريعة الاسلامية، مما ساهم في ذهاب الجنوب الى الانفصال، واندلاع القتال في دارفور قبل ذلك.

فيما يخص القتال الدائر الآن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فرغم شراسة القتال، والمعاناة التي يتكبدها الشعب المسالم نتيجة ذلك، إلا أن عدم اتخاذ هذا الصراع بعدا هوياتيا أو مناطقيا يجعل امكانية التدخل لإيجاد حل سريع له مسألة ممكنة، فهذا القتال هو ليس اكثر من صراع بين "قائدين"، لكل منهما امتداداته الدولية والاقليمية، يتنافسان على الحكم وعلى الثروة في السودان.

السودان في خضم الصراع الدولي
كثيرة هي الدول المعنية بالشأن السوداني، حيث تقرر مصالح تلك الدول سياساتها تجاه تلك الدولة، واصطفافها في الصراع الدائر هناك الآن.

تعتبر مصر اكثر البلدان تأثرا بما يجري في السودان، فاستقراره استقرار لها، فهي تملك مع السودان حدودا بطول 1200 كم، وعبره يأتي نهر النيل الذي لا غنى عنه لكليهما، وكذلك تتشاركان في أمن البحر الأحمر. والسودان طريق للهجرة غير الشرعية لمصر وعبرها لأوروبا، وقد يكون مصدرا "للإرهاب" باشكاله المختلفة.

السعودية التي تقابل السودان على البحر الأحمر، معنية ايضا بما يجري فيه . فهو حليف لها في حربها في اليمن، ولها استثمارات ضخمة فيه، لذلك وجدناها تشارك الولايات المتحدة في مبادرة لوضع حد للصراع فيه.

بموازاة السعودية، تملك الامارات علاقات وطيدة مع الدعم السريع وقائدها حميدتي، نظرا للعلاقات التجارية الكبيرة بين الطرفين، خاصة في مجال الذهب، والاستثمارات الكبيرة في مجال الاراضي، وكذلك لطموحها في إدارة الموانىء السودانية، حيث تحرص الإمارات على "السيطرة" على النقل البحري عبر ملكية موانيء في مختلف المناطق الهامة في العالم.

أما امريكا فهي معنية تاريخيا بالسودان، فهو نقطة انطلاق الى باقي افريقيا، وهو ساحة لمواجهة نفوذ الصين وروسيا المتنامي في القارة، وتريد أن لا يعود السودان ثانية حليفا لإيران، والمنظمات الفلسطينية.... لذلك فرضت عليه العقوبات، ولذلك رفعتها.

الى جانب هذه الدول، هناك الصين وروسيا واثيوبيا وتشاد، وكذلك اسرائيل.. كل هذه الدول معنية، كل من زاويته، بما يجري في السودان، "ويتدخل" به على طريقته.

كان السودان، وهو بلد اللاءات الثلاث "لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض" مع إسرائيل، من بين البلدان الأكثر قربا للقضية الفلسطينية، ليس فقط من حيث التعاطف الشعبي معها، بل ايضا من خلال الدعم الذي قدمته للمقاومة الفلسطينية.
بسبب ذلك، اضافة الى اسباب أخرى لها علاقة بموقع السودان من مصر، الدولة العربية المركزية، وبالاصطفافات الدولية الكبرى، والصراع الدولي على افريقيا، عانى السودان كثيرا في العقود الماضية من الاعتداءات الأمريكية والاسرائيلية المباشرة، وكذلك من المشاكل الداخلية التي نتجت عن التعامل "اللا مسؤول" للحكومات السودانية المتعاقبة مع التركيبة الاجتماعية الفسيفسائية، واتكاء الغرب على هذه السوسيولوجيا والتعامل معها من أجل تأجيج الصراعات الداخلية، التي أدت الى انفصال جنوب السودان، ووجود حركات أخرى في بعض مناطق الشمال، يمكن أن تذهب اذا لم يتم التعامل معها بعقلانية، الى انقسامات أخرى.

وكما هي عادة الغرب وامريكا تحديدا، في الاستخدام الانتقائي لحقوق الانسان، للضغط على الدول التي لا تتفق معها وابتزازها، تم فرض العقوبات الأمريكية على السودان، وتم الادعاء على قيادات سودانية ومن ضمنها الرئيس الأسبق عمر البشير في محكمة الجنايات الدولية، واخيرا وصلت "بركات" الربيع العربي للاطاحة بنظام البشير، ومجيء حكم "جديد" يرأسه كبار رجالات النظام السابق في الجيش وقوات الدعم السريع.

من الصعب إيجاد أي مؤشر على "نجاح" الربيع العربي في البلدان الذي وصل اليها، غير الذهاب إلى التطبيع مع إسرائيل. فبقدرة قادر، ومن خلال صفقة مقايضة ترفع السودان من قائمة الإرهاب، ووعد بقرض بقيمة 1.2 مليار دولار، وبعض المساعدات المتعلقة بكورونا، اجتمع رئيس مجلس الرئاسة الانتقالي السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان بنتنياهو في اوغندا، وتحول السودان من طرف معاد لإسرائيل الى حليف لها، واقيمت العلاقات الاقتصادية بين "البلدين"، وفتح المجال الجوي السوداني لإسرائيل، ووصلت العلاقة حد التوسط الاسرائيلي بين قطبي القيادة السودانية في الصراع الأخير بينهما.

عندما قررت الولايات المتحدة "تقليص" وجودها في الشرق الأوسط للتفرغ لمقارعة الصين وروسيا، "كلفت" اسرائيل لتكون وكيلا حصريا لها للهيمنة على المنطقة. واصبح تطبيع العلاقة مع إسرائيل بمثابة "تعميد" لأي نظام، يريد اثبات "طهارته" للولايات المتحدة، فإسرائيل هي المحج الذي "يمحو الذنوب"، والتقرب منها هو الذي يعيد أي نظام في المنطقة "بريئا" كما ولدته أمه.

استخدمت الولايات المتحدة كل وسائلها العسكرية والاقتصادية، والاتهام بالارهاب و"القانون الدولي" والتآمر "المدني"، وضغط "ذوي القربى" لاجبار السودان على التطبيع مع إسرائيل الى أن نجحت في ذلك. انه تطبيع اقرب الى "الاغتصاب" الفعلي للضحية، منه الى اي شيء آخر.

تعمل اسرائيل الآن على نسج العلاقات مع قوى عسكرية ومدنية متعددة في السودان. وهي تطمح من خلال ذلك لتكريس وجودها، ووجود الغرب، في افريقيا، واطباق الحصار على مصر التي تشكل مع فلسطين القلب الاستراتيجي للأمة، لإبقائها بلدا ضعيفا وقلقا وتابعا من أجل الهيمنة عليه، واستخدامه بالشكل الذي تريد.

كل الذي نراه من عبث اسرائيلي بمصير العالم العربي ومصير "الشرق" اجمالا، ويظهر في السودان حاليا بأوضح صوره، يأتي في سياق محاولات امريكا للتشبث بهيمنتها على العالم، وهي من أجل ذلك تستثمر - في حالة السودان - كل نقاط ضعفه الذاتية، خاصة على مستوى تركيبته الاجتماعية والهوياتية، وتستغل حالة الضعف "غير المبررة في كثير من جوانبها" التي تعاني منه مصر (القلب)، وتنعكس اعراضها بوضوح على البلدان "الأطراف" للأمة.

فلسطينيا يجب الادراك أن ما يجري في السودان حاليا هو حالة من "فقدان التوازن" الطاريء والعابر، لا يعبر عن جوهر السودان الحقيقي تجاه فلسطين (ولا تجاه السودان ذاته). ففي السودان قوى حية تتمثل في مجتمع مدني واع ونشط، وفي احزاب سياسية عريقة يشكل الموقف من فلسطين جزءا اساسيا من وعيها، وفي نقابات تاريخية نشأت على ثقافة التحرر الذي لا يكتمل الا بفلسطين، وفي شعبين "يتوهان" في التمييز بين علميهما.

الفيديو

تابعونا على الفيس