بقلم:محمد خليفة
عندما نتأمل هذا العالم، وما يجري فيه من وقائع عجيبة، حيث تتوثب بعض الأمم، خاصة الغربية، في نشوة وحماسة فائضة لذاتها في العيش، وتعبر عن شعور واحد هو الاستغلال بدافع الهيمنة، وإنْ تعددت المظاهر الخادعة التي تتخذها وتعلن عنها. هذا المسلك الانتهازي النفعي يدل على أن غاية هذه الدول في كل سيرها ونضالها ومدلولاتها، ناتج عن تجاوزها لما تقتضيه الحياة من قيم ومثل، فهي تتجاوز حدود العقل الإنساني السوي، بما يتلازم بالضرورة مع الوجود، إلى الشر المطلق الذي يحيط بكل شيء في العالم.. الشر الأخلاقي المفجر للحروب المفتعلة والأزمات المصطنعة، دون مراعاة للعدل أو القانون الأخلاقي.
إن محكمة الجنايات الدولية هي من صنع الإرادة البشرية، تلك الإرادة البشرية المنتصرة المعزّزة بالقوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية والقانونية. وتشير الحقائق التاريخية إلى أن القانون الدولي نشأ وتطور في إطار منظومة الفكر الأوروبي، وكثير من الدول خارج تلك المنظومة، لم تشارك في إعداده، لكنها مرغمة على تطبيقه، ومن العجائب وأنت تتحدث عن الغاية المنشودة من هذا القانون وهي تحقيق العدالة أن المصالح الدولية تعطّل مواده، وتقف بالقوة في وجه تطبيق العدالة وفق مفهومها، في ازدواجية فجة لم يشهدها التاريخ الحديث من قبل منذ نشأة هذه المنظمات والمحاكم التابعة للأمم المتحدة؛ لأن العالم لا يزال محكوماً بعقلية التسلط الغربية.
ثمة شواهد كثيرة تبين أن الغرب يتعالى على القوانين الدولية، ويطبّق العدالة بالكيفية التي يراها مناسبة له فقط، فمثلاً لم يسأل الغرب يوماً نفسه، ما هو السبب الذي دفعه إلى تدمير دولة يوغسلافيا، والتسبب في مقتل وتشريد ملايين الناس من أوطانهم، فهل كانت حربه تلك حرباً عادلة؟ وهل كان احتلال العراق وتدميره وقتل مئات الآلاف من شعبه حرباً عادلة؟ فأين هي العدالة الدولية من تلك الأفعال؟
لقد أصدرت محكمة الجنايات الدولية مؤخراً مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومذكرة اعتقال بحق رئيسة مفوضية حقوق الأطفال في روسيا ماريا ألكسيفا لفوفا بيلوفا، بزعم ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
ومن الواضح أن قرار هذه المحكمة هو قرار سياسي يأتي في إطار الحرب المفتوحة بين روسيا من جهة، وبين دول الغرب من جهة أخرى، مع أن روسيا ليست عضواً في تلك المحكمة، وكيف سيتم تطبيق هذا القرار عليها؟ وأيضاً ما هذه الجريمة التي أشارت إليها تلك المحكمة، والتي تم صوغ مضمونها بعناية ليلامس شغاف قلوب البشر في كل مكان، وهو التعرض للأطفال؟ ومن هنا، فإن المحكمة تعتقد أن تسليط الضوء على جريمة تخص الأطفال سيجعل مختلف الدول تتعاطف مع هذا القرار، لكن في واقع الحال، فإن هذا القرار قد يبقى في أدراج تلك المحكمة؛ لأن روسيا قوة عالمية عظمى وستحدد الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم مستقبل العالم.
وعلى كل حال فقرار المحكمة يمثل إسفافاً كبيراً، ويتنافى مع الأعراف الدبلوماسية التي سادت في العالم، ليس لأن الرئيس فلاديمير بوتين هو رئيس روسيا، وهو يكسب شرعيته من الدستور الروسي فقط؛ بل لأن رؤساء دول غربية أصدروا أوامر بقتل الآلاف، وغزوا دولاً، وغيّروا حكومات بالقوة، وغيرها من الأعمال التي تخضع لسلطة القانون الدولي، ولم نشهد قراراً مماثلاً. والسؤال المطروح هنا: لماذا الحرص على تطبيق القانون الدولي هنا وليس هناك؟ ولماذا هذا الرئيس وليس ذاك؟
إن مثل هذه القرارات السياسية التي لا تمتّ للقانون بصلة، جعل هذه المحكمة تتعرض لانتقادات كبيرة من قبل عدد من الدول، منها الصين والهند وروسيا، وهي الدول التي تمتنع عن التوقيع على ميثاق المحكمة، وأيضاً لايزال عدد الدول المنتسبة إلى الميثاق في نحو 120 دولة، ما يعني أن المحكمة لا تحوز إجماع العالم. وأيضاً، فإن تلك المحكمة قد رفضت بتاتاً فتح ملفات حصار الدول الفقيرة مثل الحصار الأمريكي المفروض على كوبا منذ نحو ستين عاماً، والذي أدى إلى قتل عشرات الآلاف من الأطفال بسبب سوء التغذية وانعدام الدواء. وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تبين أن تلك المحكمة لو كانت تبحث حقاً عن العدالة وإنصاف المظلومين في العالم، لكانت فتحت ملفات كثيرة تتعلق بأفعال غير قانونية قامت بها دول كبرى في العالم