بقلم:أحمد رحّال
بعد جولات تفاوضية في بغداد لم يُكتب لها النجاح (وقد تكون تمويهية) بين مفاوضين إيرانيين وسعوديين، وبرعاية من رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي، نجح الراعي الصيني، عبر مفاوضات سرّية في بكين، في تحقيق اختراقٍ سياسيٍّ كبير، عبر التوصل إلى اتفاق سياسي بين طهران والرياض، ينهي حالة القطيعة والصدام العسكري غير المباشر بين الطرفين، ويمهّد، بعد فترةٍ تجريبيةٍ تمتد شهرين، لعلاقات دبلوماسية ولقاءات بين وزراء الخارجية في محطتها الأولى، وقد تصل إلى زيارات على مستوى أعلى رأس الهرم السياسي بين البلدين.
ربما ساهمت، بشكلٍ ما، الظروف السياسية والعسكرية غير المريحة التي يعيشها الطرفان بتشكيل ضغوط ايجابية على كلا المتفاوضين، وأسهمت بالتوصل إلى هذا الاتفاق، فإيران تعيش تحرّكات شعبية داخلية أرهقت الحكومة والقوى الأمنية، تُضاف إلى اقتصاد منهكٍ بعقوبات غربية شلّت عجلة الصناعة والتجارة والدورة الاقتصادية، وانعكست سلباً على حياة المجتمع الإيراني الذي يرزح أساساً مع حكومته تحت ضغوط غربية، إثر تعثّر المفاوضات النووية مع مجموعة 5+1 في فيينا، ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وزادت الضغوط عندما لوّحت إسرائيل باللجوء إلى القوة لوقف المشروع النووي الإيراني ومشروع الصواريخ الباليستية والطيران المسيّر الذي دخل الحرب الأوكرانية إلى جانب الروس، الأمر الذي زاد من غضب الغرب المتحفّز لفرض عقوبات جديدة على إيران.
تشعر السعودية على الضفة الأخرى أيضاً بأنها غرقت بأوحال حرب استنزاف في اليمن غير معروفة النهايات، وأن ما تصرفه آلة الحرب في جيشها دعماً للشرعية اليمنية ولمتطلبات الأمن القومي السعودي، كان يجب أن يُصرف على مشاريع اقتصادية تنعكس على حياة مواطنيها، وتساهم بتحقيق خطة 2030 التي طرحتها القيادة السياسية السعودية. وزادت التعقيدات من خلال التهديدات المباشرة التي طاولت منشآتها النفطية والصناعية، خصوصاً بعد تعرّض منشآتها النفطية، وبعض المواقع الحيوية والخدمية داخل المملكة لعدة هجمات، أخطرها الهجوم على منشآت أرامكو عام 2019، الذي وُجّهت الاتهامات في حينها لإيران بأنها الفاعل أو الموجّه أو الداعم.
الاتفاق السعودي الإيراني يعني، في أهم تفاصيله، خروج المملكة ومعها معظم دول الخليج، من دائرة الاستهداف الإيراني، إذا ما كانت هناك حرب أميركية - إسرائيلية على إيران، أيضاً الاتفاق يحقّق هدفاً مهماً لإيران بوقف أي هجمات صاروخية أو عبر الطائرات من قواعد أميركية تتموضع في دول الخليج العربي. وبالتالي، تبقى للولايات المتحدة القدرة على استخدام أسطولها البحري مع حاملات الطائرات والغوّاصات والقدرات السيبرانية والإلكترونية، إضافة إلى أعمال مفارز التخريب داخل الأراضي الإيرانية وخلف خطوط القتال، فهل يمكن للجيش الأميركي تنفيذ مهام الحرب المخطّطة على إيران بتلك القدرات والإمكانات؟
قبيل إعلان الاتفاق في بكين، كانت هناك جولات متزامنة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ورئيس أركان جيشه على عواصم أوسطية وعربية ومواقع ساخنة، أهمها تل أبيب وعمّان والقاهرة وقاعدة التنف ومناطق قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات، وقدّم فيها رئيس الأركان، الجنرال مارك ميلي، وعوداً للحلفاء بزيادة أعداد الجنود الأميركيين في سورية، ورفع عدد النقاط القتالية المشتركة مع التحالف الدولي في شرق الفرات، على أن تترافق تلك الإجراءات مع زيادة الدعم اللوجيستي والقتالي من واشنطن، تسبقها إجراءات تنظيمية، تشمل إعادة هيكلة قوات الحلفاء المحليين، بما ينسجم مع تنفيذ مهام جديدة ستوكل لهم، منها مهمة مواجهة مليشيات إيران في سورية عند الضرورة. وقد تكون مهمة إغلاق "الكوريدور الإيراني" بين البوكمال وقاعدة التنف المهمة الأكبر التي بحث عنها الجنرال مارك، لكن ما لم تُفصح عنه الزيارة، هو ما إذا يمكن أن تكون مناطق شرق الفرات بديلاً من قواعد أميركية باتت معطّلة في الخليج لاستهداف الشمال الإيراني، باعتبار أن المسافة بين شمال شرق سورية والأراضي الإيرانية عبر سماء كردستان أقلّ من المسافة التي تفصل بين الأراضي السعودية وإيران عبر مياه الخليج العربي؟
نقلت إسرائيل، قبل أقلّ من عام، بعض غواصاتها وسفنها الحربية إلى بحر العرب. واشتركت مع القوات البحرية الأميركية بعدة مناورات وتدريبات على مقربة من الشواطئ الإيرانية. وشملت التدريبات محاكاة هجوم مشترك على منشآت إيران الحيوية ومفاعلاتها النووية ومصانع صواريخها الباليستية وطيرانها المسيّر ومقرّات القيادة وعقد الاتصال، فهل كان للقوات الإسرائيلية في بحر العرب علم مسبق بالمصالحة السعودية الإيرانية، وشكلت بوجودها هناك تعويضاً عن قواعد الخليج التي خرجت من الحسابات العسكرية الأميركية العملياتية في الحرب المقبلة على إيران (إذا ما تمّت)؟
بتسريبات أميركية، كشف النقاب عن خطة حرب عسكرية للجيش الأميركي أطلق عليها اسم عملية "دعم الحارس"، وضعتها وزارة الدفاع الأميركية بالتنسيق مع إسرائيل، ورصدت لها ميزانية للتخطيط والتدريب، لتطبق في حال فشل المفاوضات السياسية مع إيران حول مشاريعها النووية والباليستية والطيران المسيّر، وإن عملية "دعم الحارس" تستند إلى معلومات استطلاعية جوية وفضائية، أميركية وإسرائيلية، جمعت واستطاعت تشكيل بنك أهداف حيوية يحوي 600 هدف داخل إيران وخارجها. وإن الخطة إذا ما اتُّخذ القرار بتنفيذها، لا بد من أن تحقق هدفين: الأول، شلّ القدرات العسكرية الإيرانية شللاً تاماً، عبر أمواج من الضربات الجوية والصاروخية المتلاحقة التي تكبّل إيران، وتمنعها من إمكانية القيام بأي ردود عسكرية على القوات الأميركية في البحر أو القواعد العسكرية على البرّ، وكذلك تمنع مهاجمة الحلفاء. الثاني: إنهاء الحرب بسرعة، بعد تدمير الأهداف المطلوبة وعدم إطالة زمن الحرب وترك الفرصة للروس بالتدخل إلى جانب إيران، والثأر لما فعله الغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا.
لكن الجيش الأميركي يقول إن روسيا استطاعت، خلال الحرب على أوكرانيا، اغتنام أسلحة غربية ضخمة من حيث الكمّ والنوع، من مستودعات الجيش الأوكراني المنسحبة من مناطق في الجبهات الجنوبية والشرقية، وإن روسيا قدّمت تلك الأسلحة المتطوّرة للحرس الثوري الإيراني، كمقابل للطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية التي دخلت الحرب على جبهات أوكرانيا إلى جانبهم، وإن الروس تعمّدوا نقلها إلى إيران، لأسباب ثلاثة: لإهانة الغرب عبر تدمير بعض مواقعهم بسلاح غربي. لتستفيد الصناعات العسكرية الإيرانية من التقنيات الغربية ومحاولة تقليدها. ولتصنيع مضادّات لتلك الأسلحة بعد معرفة ميزاتها القتالية والتعبوية.
بالعودة إلى ملفّ المصالحة السعودية الإيرانية، يتضمّن الاتفاق الابتعاد عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكن معضلته تكمن في التطبيق، رغم التعهد الصيني بالإشراف على التنفيذ، باعتبار أن إيران تعتبر أن مراكز نفوذها الخارجية في بعض الدول هي خط الدفاع الأول عن نظام ولاية الفقيه، وأنها توجد في تلك الدول بناءً على تفاهمات وطلبات من حكومات تلك الدول التي تخضع لمشيئتها، وهذا ما ترفضه معظم شعوب المنطقة.
بموازين الربح والخسارة، يحقق الاتفاق مطالب الطرفين، وينزع فتيل الحرب بينهما، ويمهد لاستقرار المنطقة، إذا ما نُفّذت بنوده بحذافيرها من دون لفٍّ أو دوران أو مماطلة، فهل توافق الدولة الإيرانية العميقة ممثلة بالمرشد الإيراني، خامنئي، ومجلس الشورى لديه، على الاتفاق الذي وقّعته حكومة إيران الرسمية في بكين؟ وبالتالي تُمهد الطريق لرسم خريطة تفاهمات جديدة تعزّز الأمن والسلام، وتُبعد شبح الحرب عن منطقةٍ بات حلمها العودة إلى العيش بسلام؟ أم أن تشابك المصالح في الخليج وتعقيداتها لا تُفك شيفرة رموزه إلا عبر فوهات البنادق؟