بقلم: حجاي العاد- هارتس
منذ انتخابات الأول من تشرين الثاني 2022، تمرّ إسرائيل بعمليّة متسارعة من إزالة الأقنعة، بلغت ذروتها الرسميّة مع نشر الاتّفاقات الائتلافيّة.
تتلقّف هذه الاتّفاقات البشرى التصريحيّة لقانون أساس: القوميّة من العام 2018 وتجزّئها إلى العديد من عروض التفوّق اليهوديّ في كلّ مكان تسيطر عليه إسرائيل، ما بين البحر والنهر.
وهكذا، كان الحجر الأساس في إعلان نتنياهو عن الخطوط الأساسيّة لحكومته أنّ "للشعب اليهوديّ حقًّا حصريًّا غير قابل للنقاش أو للنقض في كامل أنحاء أرض إسرائيل"، وهو ما يتجسد في خطوات لتبييض البؤر الاستيطانيّة في الضفّة الغربية، في المعالجة المتوقَّعة لـ "الميزان الديموغرافيّ" في النقب والجليل وفي التوسيع المُرتقب لقانون لجان القبول. الدولة التي يكون "الاستيطان اليهوديّ" فيها "قيمة قوميّة" – كما أقرّ ذلك القانون الأساس وكما لم تُلغِه المحكمة العليا – يصبح التفوّق اليهوديّ فيها هو البوصلة. الحكومة الـ 37، بكرم أخلاقها، تحرص على التلويح بهذا كلّه فور انطلاقها مباشرة.
إلّا أنّه بالتزامن مع عمليّة إزالة الأقنعة المذكورة آنفًا يُستثمَر الكثير من العمل في التسويق الدؤوب لأقنعة أخرى، تحديدًا. فيما يلي بعض الأمثلة.
الحديث عن أنّ "المناطق آخذة في السيطرة على إسرائيل" يبتغي أن يقترح علينا أن نستذكر باعتزاز إسرائيل المستنيرة، تلك التي سيحتلّها بعد لحظة الشرق المتوحّش المتمثّل في المناطق المحتلة. فنحن ننعم بالديمقراطيّة، بالمساواة وبسيادة القانون، لكن في المناطق ـ مَن يكترث أصلًا؟ ـ يتعمّق الأبارتهايد. والآن، هكذا يحاولون أن يحكوا لنا، ما يحدث "هناك" قد يصل إلى "هنا". لكنّ هذا كلّه منسلخ عن التاريخ وعن الواقع: فإسرائيل لم تحتلّ ـ ماديًّا ـ المناطق فحسْب، وإنّما طبّقت "هناك" أيضًا الممارسات ذاتها التي طبّقتْها "هنا" سابقًا، منذ 1948. ينطبق هذا على الحكم العسكريّ وعلى "الاستيطان اليهوديّ" – الذي يعني الاستيلاء اليهوديّ على الأراضي الفلسطينيّة وإعادة هندسة السلطة السياسيّة، الجغرافيا والديموغرافيا الخاصّة بالحيّز: كلّ شيء بدأ هنا، ومنذ 1967 يُطبَّق هناك أيضًا. الأيديولوجيا نفسها، السياسة نفسها، "في كلّ أنحاء أرض إسرائيل".
يؤدّي التشبُّث بالأقنعة القائمة إلى أداء بشع حقًّا عند معاينة ردود الفعل على التغييرات التي التزمت بتنفيذها الحكومة الجديدة فيما يتعلّق بالطريقة التي تدير بها إسرائيل جوانب معيّنة من مشروع النهب في الضفّة.
وقد قوبلت هذه التغييرات باحتجاجات حازمة على "نقل صلاحيّات" الجيش إلى جهة مدنيّة، وعلى المسّ بـ "استقلاليّة" المستشار القانونيّ "لمنطقة يهودا والسامرة"، وعلى عدم شرعيّة هذه الإجراءات وفقًا للقانون الدوليّ. لكن، ما سبب الخوف؟ أن يتبيّن أنّه لا توجد في الضفّة الغربيّة سيادة "منفصلة"؟ أن يتّضح أنّ الإدارة المدنيّة تطبّق سياسة الحكومة، دائمًا وأبدًا – وليس أيّ سياسة مستقلّة، منفصلة، يبتدعها قائد المنطقة العسكرية الوسطى كجزء من التزامه العميق تجاه القانون الدوليّ وتجاه الجمهور الفلسطينيّ؟ لكنّ "المستشار القانونيّ لمنطقة يهودا والسامرة" يعمل فعليًا، دائمًا وأبدًا، من أجل توفير الشرعيّة القانونيّة لسلب الأراضي الفلسطينيّة من قِبل إسرائيل: هكذا كان الأمر في ظلّ حكومات "اليسار"، وهكذا سيكون في ظلّ حكومة "يمين بالكامل". سياسة إسرائيل في المناطق المحتلة، بمختلف جوانبها المطبَّقة من خلال الجسم البيروقراطيّ المسمّى "الادارة المدنيّة"، هي بكل بساطة، وكما كانت دائمًا: سياسة إسرائيل في المناطق المحتلة. لا إدارة منفصلة ولا نظام حكم منفصل. لم ينتظرْ أي شيء من هذا كلّه يومًا لوزير خاص لمثل هذه الشؤون في وزارة الأمن، ممثل "اليمين المتطرّف". وزراء ومشرّعون، مدّعون عامّون وضبّاط، رسميّون ومعياريّون، هم مَن وضعوا القاعدة الأساسيّة السياسيّة، الإداريّة والقانونيّة التي تستخدمها إسرائيل لتطبيق هذه السياسة وإضفاء صبغة شكلية من الشرعيّة القانونية عليها.
هذا ما يقودنا بالطبع إلى المحكمة العليا وقرصها في العرس. قناع إسرائيل الليبراليّة الذي يسعى الآن إلى حماية "محكمة العدل العليا" من مدمّري الديمقراطيّة، من المُطيحين بحكم القانون وما إلى ذلك، هو مجرد "تعويذة" يتمّ ترديدها ليلَ نهار. ما الذي يحاولون إخفاءه هنا؟ إنه، بشكل أساسي، دور المحكمة العليا في شرعنة مشروع سلب الفلسطينيّين ممتلكاتهم وحماية المجرمين المسؤولين عن ذلك من أيّة محاسبة. مثلما تطوّع المستشار القضائيّ السابق للحكومة وقاضي المحكمة العليا السابق، إلياكيم روبنشطاين، لشرح ذلك مؤخّرًا (في المدوّنة الصوتيّة "الأسبوع" في هآرتس): "ما هي سترتُنا الواقيةُ ضدّ لاهاي؟ إنها المحكمة العليا في الأساس... إضعاف المحكمة هو إضعاف لنا أمام لاهاي".
وبعبارة أبسط وأوضح، هذه هي الصفقة: هذه ليست محكمة تدافع عن حقوق الإنسان، وإنما هي محكمة تحمي الإسرائيليّين من التعرُّض للمساءلة بشأن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطينيّ، نوع من خُدعة - براءة اختراع تُتَمْتِم كلاماً عن "حقوق الإنسان" من جهة، بينما هي تقصد شيئًا آخر تمامًا، من الجهة الأخرى. ولكي تستمرّ الخُدعة- براءة الاختراع في تأدية مهمتها، كي نتمكّن من الاستمرار، في جميع أنحاء أرض إسرائيل كافّةً، كي نتمكن من الاستمرار في فعل ما نفعله نحن بالفلسطينيّين دون أن يتدخّل العالم، يجب الحفاظ على "استقلاليّة" المحكمة. وهكذا، ستواصل هذه، بشكل مستقلّ، شرعنة إطلاق النيران القاتلة على المتظاهرين الفلسطينيّين، نهب الأراضي الفلسطينيّة، هدم منازل الفلسطينيّين، اعتقال الفلسطينيين المضربين عن الطعام والمعرَّضين للموت، وأيّ شيء آخر يحتاج إليه نظام التفوُّق اليهوديّ لخدمة وتكريس حقوقنا الحصريّة هنا.
وللتحلية، إليكم الكذبة الأخيرة، تلك التي تحاول الادّعاء بأنّ كلّ هذه الأشياء الرهيبة ليست في صميم إجماع نظام التفوُّق اليهوديّ، وإنّما هي ملكيّة حصريّة لـ "أحزاب راديكالية من اليمين المتطرّف"، كما ورد في افتتاحيّة "نيويورك تايمز" القلقة. هؤلاء "المتطرّفون" أنفسهم يدعون إلى "توسيع المستوطنات ومنحها شرعيّة قانونيّة على نحوٍ يجعل أيّة محاولة لإقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة غير ممكنة التنفيذ". هل هذه أجندة جديدة لـ "اليمين المتطرّف"، حقًّا؟ وكأنّ كلّ حكومات إسرائيل منذ العام 1967 لم تعمل على بناء المستوطنات، توسيعها ومنحها الشرعيّة القانونيّة. وكأنّ حزب "العمل" (غير المتطرّف) لم يكن عرّاب ذلك كلّه. وكأنّه ليست للنيابة العامّة و"محكمة العدل العليا" (غير المتطرّفتَين) أسهم أساسيّة في شرعنة هذا المشروع. لا، فكرة أنّ إقامة الدولة الفلسطينيّة "غير ممكنة التنفيذ" هي خطّ إسرائيليّ قديم، خصوصًا وأنّها كانت في صميم الاتّفاقية التي جعلت "حكومة التغيير" ممكنة. مَن يقودون هذا الخطّ في إسرائيل لا يُعتبرون "متطرِّفين". هذا موقف مركزيّ: عدم منح الفلسطينيّين مساواة أو حرّيّة، وإنّما أبارتهايد.
ما الذي يقتصر على "المتطرِّفين" أيضًا، حسب "نيويورك تايمز"؟ "تغيير الوضع القائم في الحرم القدسيّ هو خطوة قد تؤدّي إلى إثارة جولة جديدة من العنف بين العرب والإسرائيليّين". صحيح، هذه قضيّة متفجّرة وحسّاسة. لكن، كان ذلك رئيس الحكومة غير المتطرِّف وغير اليمينيّ المنتهية ولايته يائير لبيد، لا غيره، هو الذي أصرّ، في خطاب ألقاه في الكنيست لخّص فيه إنجازات حكومته الليبراليّة، على ذكر حقيقة أنّ "عددًا قياسيًّا من اليهود قدِموا لزيارة الحرم القدسيّ خلال السنة الأخيرة".
ثمّة مَن يعتقد، على ما يبدو، أنّه مع مثل هذه الأقنعة من الممكن بناء متاريس أكثر فاعليّة، يمكن النضال من خلفها ضدّ الحكومة الحاليّة وضدّ الأخطار التي تضعها – وهي أخطار حقيقيّة جدًّا، بالفعل. لكنّ المتراس القائم على الأكاذيب هو متراس أجوف، ومصيره الانهيار. مع كلّ هذه الأكاذيب، يصبح "النضال"، بحدّ ذاته، كذبة كبيرة تسعى إلى إعادتنا إلى أيّام المجد الوهميّة للديمقراطيّة الليبراليّة التي كأنّها كانت قائمة هنا؛ وكأنّنا نقول: "ليتنا فقط واصلنا العيش في العالم المستنير القائم على المساواة الذي عشنا فيه حتّى 31 تشرين الأوّل 2022"! هذا ليس أكثر من حنين إلى أبارتهايد أكثر تنميقًا وأقلّ عِصابيّةً. أبارتهايد غانتس وروبنشطاين، وليس نتنياهو وسموتريتش لا قدّر الله. هل هذا ما يجدر النضال من أجله؟
ممنوع، بالتأكيد، أن نستخفّ بمدى خطورة الحكومة الحاليّة، لأنّ حريقًا كبيرًا يمكن أن يندلع في أيّة لحظة ويؤدّي، لا قدَّر الله، إلى سفك دماء فظيع. إلّا أنّ الارتياع من الفظائع القادمة يستدعي منّا أن نرفض إغماض أعيننا إزاء الفظائع اليوميّة، الدامية، التي هي حياة الفلسطينيّين تحت السيطرة الإسرائيليّة. وبالذات، لأنّ هذا الأوان خطير، فظّ وعنصريّ للغاية، يجب أن نحاربه باستقامة وليس بنضال قائم على الأكاذيب. لا يمكن لهذا أن يكون نضالًا من أجل "سلطة القانون" (في خدمة اليهود) أو من أجل "الدولانية" (اليهوديّة) أو من أجل "دولة يهوديّة وديمقراطيّة" (لليهود). يجب أن يكون هذا نضالًا من أجل تحقيق الحقوق الفرديّة والجماعيّة لجميع الناس الذين يعيشون بين البحر والنهر. نضال بدون أقنعة.
المصدر : صحيفة القدس