إن تمثل وبلورة واعتماد منظومة تربوية موريتانية ناجعة وكفيلة باستنفاذ أغراضها على الوجه المطلوب تستوجب في نظرنا، أولا بأول:
-استحضار تاريخ البلاد وسيرورتها الثقافية وطبيعة ثوابتها الدينية وخصائصها الحضارية وتركيبتها الاجتماعية.
-اعتبار الموروث الثقافي والروحي المتراكم عبر الأحقاب والذي يربط حاضر الشعب الموريتاني بماضيه عبر سلسلة متصلة الحلقات تشد كل مكونات هذا الشعب إلى بعضها وتجعل منها كيانا واحدا في تنوعه وتعدده.
-استكناه حاضرنا واستيعاب ما قد اعتوره من تحولات اجتماعية وفكرية وسياسية ومؤسسية وما قد يترتب عن ذلك من توجهات اديولوجية جديدة وتطلعات ثقافية وهوياتيه مستحدثة، ومن نزوع إلى إبراز المغايرة والتنوع والحرص على صيانة الخصوصيات والغيرية التي أوجدها منطق العصر وما قد افرزه من ثقافة حقوقية ومن ذهنية مناهضة للتهميش والإقصاء.
-تحديد ملامح مشروع المجتمع الموريتاني المراد إقامته والمواصفات الاقتصادية والسوسيو ثقافية والمؤسسية التي ينبغي أن يتميز بها.
-استجلاء نوعية المعارف والخبرات والمهارات والكفاءات التي يلزم أن تتضمنها المنظومة التربوية القمينة بتوفير الشروط الضرورية لقيام مشروع المجتمع المنشود وتوصيف المؤسسات والبنى التي من شأنها أن تشكل آليات نشر وإشاعة وترقية وتفعيل هذه المنظومة التربوية.
استحضار السيرورة التاريخية للبلاد :
إن المجموعات الناطقة بالعربية والبولارية والسوننكية والولفية المكونة للمجتمع الموريتاني الحالي والتي هي أساسا نتيجة تمازج وتداخل بين الأفارقة السود والبربر والعرب، قد بلورت سويا، بفعل تساكنها وتواشجها الاجتماعي وتماهيها الديني، رصيدا ثقافيا مشتركا وموروثا فكريا موحدا قوامه الدين الاسلامي ووعاؤه اللغة العربية ، التي اتخذها الجميع ، طواعية ، ولردح طويل من الزمن ، أداة للتعليم والتدوين والتوثيق والمراسلة وقد اشتركت في امتلاكها وتوظيفها كل مكونات الشعب الموريتاني دون ترد د ولا تحفظ ولا غضاضة حيث شكلت لغتها المشتركة للعبادة والتحصيل والتواصل.
ولما جاء الاستعمار الفرنسي في مطلع القرن العشرين عمل على إضعاف النفوذ الإسلامي وسعى إلى تقليص استعمال اللغة العربية والى تقزيم العلماء الأهليين. ثم فرض لغته وثقافته ونظامه الإداري والمؤسسي ؛ واوجد أعوانا ومساعدين استجلب العديد منهم من دول الجوار فكانوا له أنصارا وعملاء. ثم كون طبقة موالية له متعلقة بلغته ومتشبثة بثقافته، جعلها متنفذة ومتمكنة من المناصب الإدارية والسياسية المفصلية.
ومع مرور الزمن تشكلت طبقة اجتماعية فرنكفونية أكثر تجاوبا وتماهيا مع المستعمر الفرنسي منها مع الثقافة التقليدية الإسلامية العربية. فما لبثت أن ناصبت العداء لهذه الثقافة وأظهرت الحقد على أصحابها. وكان المستعمر يذكي هذه العواطف ويؤججها مما أفضى إلى خلق شرخ بين الطبقة الفرنكفوينة الموالية لفرنسا والمثقفين التقليديين المستمسكين بهويتهم وأصالتهم.
هذه هي الأرضية التي انبتت الصراع الثقافي الحاد الذي عرفته البلاد منذ سني استقلالها الأولى والذي فاقمه التسييس وأججته المواقف المغرضة والو لاءات الضيقة المدعومة من الخارج؛ مما أدى بالبلاد إلى اجتياز أزمات حادة كادت أن تمزق وحدتها وتهدد كيانها.
ثم تغلب العقل وانتصرت الحكمة وساد التبصر بحيث أدرك الجميع وتقبل الكل كون موريتانيا بلدا مسلما ، عربيا إفريقيا تتساكن فيه أربع قوميات لكل منها لغتها وثقافتها إلا أنها تتقاسم جميعها الثقافة العربية الإسلامية ولها نفس التصميم على تطوير وتفعيل وتوظيف كل لغاتها الوطنية.
استكناه الحاضر واستشراف المستقبل :
إن الشعب الموريتاني الذي تمتد جذور مكوناته إلى إمبراطورية غانا ومملكة التكرور ودولة المرابطين والذي أنجب عبر تاريخه مصلحين عظام من أمثال ناصر الدين أوبك وسليمان بال ومجاهدين مرموقين من أمثال الشيخ ماء العينين ولد مامينا، وبكار ولد سويد أحمد والحاج عمر الفوتي والساموري تورى...وان كان متوحدا في معتقداته وقيمه الدينية والأخلاقية فإنه متعدد الأعراق ومتنوع الثقافات والخصوصيات؛ فإلى جانب هويته الإسلامية الجامعة الموحدة، فإن له هويات سوسيو ثقافية متمايزة تريد الإفصاح عن ذاتها والإسهام في بلورة وإثراء الموروث الثقافي الموريتاني في مختلف تجلياته وأبعاده .
وهذا طموح ليس مشروعا وحسب بل ضروري للعمل على توسيع رصيد البلاد الفكري وارتقائها الحضاري.
وربما يكون قد حصل تأخر في فهم هذا الهاجس واستساغة ما يتصل به من تطلعات مشروعة مما أوجد عتبا وامتعاضا لدى بعض نخب القوميات الزنجية حدا بجزء منها إلى تبني مواقف وانتهاج مسلكيات ربما نعتها البعض بالغلو والتطرف والتحامل غير المبرر.
ولقد أدى سوء التفاهم هذا إلى توترات واحتقان وأزمات بلغت ذروتها خلال سني الجمر في أوائل التسعينيات وما ميزها من تشنج وعنف وعنف مضاد ومساس بحقوق الإنسان تم تبريره بأنه كان ردة فعل على مؤامرات كانت تستهدف قلب نظام الحكم وتفجير حرب أهلية ماحقة.
ولقد حان الأوان للنظر بموضوعية وتجرد للوضعية المميزة لبلادنا واستكناه تطلعات مكونات شعبنا وأخذ هذه التطلعات بعين الاعتبار وصولا إلى تحقيق التفاهم والتناغم والانسجام بينها.
ففي سياق تسود فيه قيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان ومثل المساواة والعدالة والندية، وفي نسق عام يكرس التعددية والتنوع وحق الاختلاف ، لم يعد من الوارد ولا من المقبول إلغاء الثقافات وطمس الهويات وإرادة الهيمنة كائنا ما كان شكلها.
إلا أنه أيضا في ظل النظام العالمي الحالي المختل بمفعول اللبرالية المتوحشة والعولمة الساحقة وإرادة الهيمنة الاقتصادية والسياسية والفكرية من خلال بلقنة الأمم وتفتيت الشعوب وشرذمة المجتمعات فإنه يلزم الحفاظ على إطار جامع وهوية عامة حاضنة تقي من التمزق والتشتت وتمنع من التحول إلى كيانات صغيرة متنافرة منخرطة في صراع هوياتي مرير. علما أن هضم الأغلبية لحقوق الأقليات وتهميشها حيف غير مقبول كما أن تنطع الأقليات وتجنيها على الأغلبية ومحاولة ابتزازها لها وتعمد شيطنتها تصرف مرفوض وغير إيجابي.
والموقف السليم هو الذي يعتمد الوسطية والاعتدال ويتجافى عن الضرر والإضرار.
ومن هنا يجب على الموريتانيين سلطة ونخبا وفاعلين اقتصاديين واجتماعيين وجمعويين وفقهاء وإعلاميين وقادة رأي وكافة مكونات القوى الوطنية الحية أن توحد جهودها لانجاز وتوطيد مشروع مجتمع تسود فيه المثل العليا ومبادئ الديمقراطية والمساواة والعدالة وتختفي فيه والأمية والتبعية والمرض والفقر المدقع ومخلفات الرق، مشروع مجتمع يؤمن كل الشروط للشعب الموريتاني لكي يتصالح مع ذاته ومع تاريخه ويتملك موروثه الثقافي والروحي، وأن يأخذ بأسباب التقدم بكل مظاهره مع ما يقتضيه ذلك من انتشار المعارف والعلوم والفنون ورسوخ الوعي السياسي والالتزام الأخلاقي والتحلي بروح المسؤولية تجاه الهم العام والمصلحة الوطنية العليا، والترفع عن الأنانية والو لاءات الضيقة.
وقيام مشروع مجتمع كهذا يقتضي توفر شروط معينة وإيجاد مناخ محدد ، ويستلزم تضافر مجموعة عوامل يتصدرها تعميم المعارف ونشر العلوم وترقية الفنون وبث الوعي الاجتماعي والارتقاء بالذائقة العامة وترسيخ الحس النقدي وتوطيد الفكر الاستراتيجي ألاستشرافي.
ومثل هذا السياق لا يمكن أن يتوفر إلا إذا تم التمهيد له باعتماد نظام تعليمي عقلاني محكم وواع لكل المتطلبات والمقتضيات التي يستلزمها قيام هكذا سياق.
فما هي مقومات ومواصفات المنظومة التعليمية الكفيلة بتحضير الأرضية واعداد المناخ الملائمين لقيام مشروع المجتمع المأمول؟
ملامح المنظومة التربوية الكفيلة بتحقيق مشروع المجتمع المستهدف :
إن المنظومة التربوية التي ينبغي بلورتها واعتمادها اليوم يجب أن تكون مغايرة جذريا من حيث البنية والمحتوى للنموذج القائم الآن والذي عرف العديد من التحويرات والتقويمات الغير موفقة. ذلكم النموذج الذي طالما اتسم بالعفوية والعشوائية والارتجال والذي ما انفك يفتقر إلى التخطيط والدقة والعقلانية.
إذ لم تكن هناك ضوابط ولا معيارية محددة لوضع المناهج والمقررات المعتمدة في مختلف مراحل العملية التعليمية، ولم تكن ثمة أدنى صلة بين التعليم في كل مستوياته وبين متطلبات سوق العمل من الكفاءات واحتياجات البلاد من الموارد البشرية بشكل عام. حيث كان التعليم بواد واحتياجات التنمية من خبرات ومهارات بواد آخر. مما جعل المنظومة التعليمية برمتها عديمة المردودية ومفقودة الجدوائية.
وما فتئت العملية التعليمية تسير وفق ديناميكية اعتباطية نحو المجهول كونها تختزل في تدريس ابتدائي عام يمهد إلى الانتقال إلى تدريس ثانوي عام يقتصر عموما على الآداب والعلوم الطبيعية والرياضيات "يعد" بدوره إلى تعليم جامعي عام ينحصر في العلوم الإنسانية، من آداب وقانون واقتصاد وعلوم دقيقة تتلخص في العلوم الطبيعية والرياضيات والكيمياء والفيزياء ، دون مراعاة حاجيات السوق من الكوادر المؤهلة ذات الخبرات المطلوبة.
ومن هذا المنطلق فإن أي مجهود يهدف إلى تبني منظومة تربوية جديدة يستتبع إجراء قطيعة كاملة مع المنظومة الحالية التي تم رتقها وترقيعها عدة مرات دون جدوى.
والمنظومة التربوية الجديدة ينبغي أن تجعل نصب عينيها أهدافا يتوجب تحقيقها، وتحدد غايات يلزم بلوغها عبر مقاربات واستراتيجيات معلومة وبواسطة وسائل وآليات محددة.
فما هي الأهداف المراد بلوغها والاستراتيجيات الضروري اعتمادها؟ وما الآليات الواجب توسلها لإرساء دعائم المنظومة المستهدفة ووضعها حيز التنفيذ؟
الأهداف المنشودة
يجب أن تستهدف هذه المنظومة :
-محو الأمية الأبجدية بشكل نهائي.
-بناء العقول من خلال تعليم وتكوين وتدريب وتأهيل النشء وتزويده بالخبرات والمهارات والكفاءات الكفيلة بإعداده لممارسة أنشطة وامتهان حرف وأداء أعمال مدرة للدخل وخليقة بالإسهام في بناء الاقتصاد الوطني مما يحول مخرجات التعليم إلى رأس مال بشري فعال يشكل أهم دعائم نمو وتقدم البلاد.
-إشاعة تربية دينية ومدنية وأخلاقية وترسيخ ثقافة مواطنية تقود إلى احترام قيم الأمة والتمسك بثوابتها والاستئناس بمبادئ الديمقراطية من عدالة ومساواة وحفاظ على حقوق الإنسان مع الحرص على صيانة الوحدة الوطنية.
-خلق ذائقة فنية عامة مفضية إلى تفشي الحس الجمالي وانتشار رقة الطباع والرهافة والمدنية والتحضر.
-قيام مجتمع المعرفة وتوطين العقلانية والحس النقدي.
-دفع البحث العلمي وتشجيع الاختراعات والابتكارات والإبداع عن طريق رصد المكافآت وصرف الجوائز للباحثين وصولا إلى إحداث طفرة ثقافية وخلق نهضة فكرية تصل ماضي البلاد يحاضرها وتبرز رسوخ قدمها في العلوم والمعارف.
المقاربة الملائمة والآليات اللازمة:
إن أنموذج المنظومة التربوية التي يمكن اعتمادها ينبغي أن تتخذ شكل هرم واسع القاعدة ، على أن تمثل قاعدته المستوى الابتدائي بما فيه المرحلة ما قبل المدرسية والمرحلة التحضيرية. ويمثل وسطه المستوى الإعدادي والثانوي بمختلف أنواعه ويمثل رأسه المستوى الجامعي بشتى أصنافه.
ولا بأس من استعراض هذه المستويات تباعا، لتبيان ماهيتها وإبراز غايتها وإيضاح متطلباتها والعناصر المكونة لها.
مستويات ما قبل المدرسي والتحضيري والابتدائي
مرحلة ما قبل المدرسي :
تعني هذه المرحلة البراعم ما بين سن الرابعة والسابعة وهذه المرحلة وإن كانت في الغالب اختيارية فإنها تشكل محطة هامة من مسار تنشئة وتكوين الطفل.
فالمؤسسات المخصصة لها والتي هي رياض الأطفال يمكن أن تمثل بؤر توعية وتربية تكسب الطفل الوعي بذاته وإدراك محيطه والتماهي مع أقرانه.
ومن ثم ينبغي أن تشكل رياض الأطفال ما وسعها ذلك فضاءلت تمازج بين أطفال كل القوميات الوطنية وإطار تعاون وتكامل بين المربين والمؤطرين المنتمين إلى مختلف مكونات المجتمع الموريتاني.
على أن تستهدف رياض الأطفال تقوية وتعهد ملكات هؤلاء الأطفال واستدراج مواهبهم وتعزيز كفاءاتهم اللغوية وشحذ حسهم الاجتماعي. ويجب تعبئة ما تتطلبه هذه المرحلة الدقيقة والمؤسسة من كفاءات تأطيرية مؤهلة ومن وسائل لوجستية ملائمة ومن متابعة ومواكبة إدارية منتظمة.
مستوى التحضيري والابتدائي
ويعني هذا المستوى الأطفال من سن السابعة إلى غاية الثالثة عشر. والتعليم الذي يقام به خلال هذه الفترة العمرية والذي يلزم أن يكون إجباريا ينبغي أن يتم وجوبا ضمن فضاءلت بيداغوجية موحدة جامعة ودامجة لكل الأطفال الموريتانيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية والاثنية. وهذه الفضاءات هي المدارس الابتدائية التي يجب أن تكون وظيفية وجذابة ومجهزة على الوجه المطلوب بحيث تتضمن مرافق ملائمة وفضاءات رحبة يتوسطها العلم الوطني الذي تتم تحيته كل صباح على أنغام النشيد الوطني من طرف التلاميذ الذين يرتدون زيا موحدا خاصا بمدارسهم.
والتعليم الذي يعطى للتلاميذ خلال هذه المرحلة دون أية تفرقة ولا تمييز ينبغي أن يتمثل في :
-مبادئ القراءة والكتابة للغة العربية
-مبادئ القراءة والكتابة للغات الوطنية على أن يكون تعلم إحداها إجباريا على الجميع
-مبادئ الحساب والعلوم الطبيعية باللغة العربية مع تنظيم حصص باللغات الوطنية لفائدة الأطفال الناطقين بها حتى يمكنهم تمثل واستيعاب هذه المواد على الوجه الأكمل
-التربية الإسلامية والمدنية
-الرسم والأعمال اليدوية وتعلم المبادئ الأولية للموسيقى
-الرياضة البدنية
-مبادئ اللغة الفرنسية (خلال السنتين الأخيرتين من هذه المرحلة).
المستوى الإعدادي:
في هذا المستوى يتم تدريس :
-الحساب والهندسة والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والتربية الإسلامية والمدنية وثقافة المواطنة وحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وآلياتها (باللغة العربية)
-اللغة العربية وعلومها
-اللغات الحية الأجنبية (الفرنسية- الانجليزية- الاسبانية حسب اختيار التلاميذ)
-تدريس اللغات الوطنية على أن يكون تعلم إحداها إجباريا على الجميع ويختار التلاميذ اللغة الوطنية غير لغتهم الأم التي يريدون تعلمها.
-تدريس المصطلحات والمفاهيم العلمية باللغة الفرنسية والانجليزية
-الرسم والفنون التشكيلية والموسيقى
-الأعمال اليدوية
-التدريب على اكتساب مهارات أولية في النجارة والخياطة والفلاحة والكهرباء، والمعلوماتية حسب اختيارات التلاميذ وذلك ضمن الو رشات والمشاغيل التي ينبغي أن تتوفر عليها المؤسسات التعليمية عبر البلاد
-الرياضة البدنية والتعبير الجسدي
مستوى الثانوي و الما بعد ثانوي
هذا المستوى يجب توسيعه وتنويعه ليشمل اختصاصات ومسارات ومجالات متعددة بحيث تتوفر البلاد ، إضافة إلى ثانويات التعليم العام، على مؤسسات ثانوية تقنية وفلاحيه ومهنية وتجارية وحرفية تتيح تكوينا وإعداد لإطارات القاعدية والمتوسطة في شتى المجالات والاختصاصات التي تتطلبها الحياة العصرية ؛ مثل الميكانيكا واللحامة والنجارة والخياطة والحلاقة والفندقة والطهي وأعمال البناء وصناعة الجلود والخزف والنحاس ... في حين تدرس مدارس التعليم الثانوي العام :
-اللغة العربية وعلومها
-العلوم الدقيقة كالرياضيات والهندسة والكيمياء والفيزياء وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية على أن تدرس العلوم الدقيقة خلال السنتين الأخيرتين من الثانوي باللغة العربية والفرنسية والانجليزية
-اللغات الأجنبية الحية (فرنسية- انجليزية- اسبانية- صينية)
-اللغات الوطنية
-الفنون الجميلة (الرسم – النحت- الموسيقى- تقنيات التعبير الدرامي والسينمائي) من أجل إعداد التلاميذ الذين يتم توجيههم لاحقا إلى معاهد الفنون الجميلة والمؤسسات السمعية البصرية التي ينبغي إنشاؤها للتكوين في مجال المسرح والسينما والفنون التشكيلية..
-التربية الإسلامية
-التربية الوطنية والثقافية والمواطنية وحقوق الإنسان
ويتم توجيه التلاميذ في نهاية السنة الإعدادية الأخيرة إلى التختصاصات الملائمة لميولهم والمناسبة لمستوياتهم وقدراتهم الذهنية حسب نتائج أداءاتهم المدرسية ووفق معايير بيداغوجية محددة.
وفي أعقاب المرحلة الثانوية بمختلف أنواعها التي تتوج بمنح شهادة الباكالوريا أو ما يعادلها، يتم توجيه الطلاب المؤهلين لمتابعة الدارسة الما بعد الثانوية إلى المعاهد العالية والمراكز المختصة والمدارس العليا التي تقوم بالتكوين في مجالات الزراعة والصناعة والهندسة والتجارة والتدبير الاقتصادي والترجمة والإعلام وتقنيات الاتصال والدبلوماسية والإدارة .. والى الكليات للتكوين في مجال الطب والبيطرة والعلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية.... ثم إلى المعاهد العليا للفنون الجميلة لتلقي التكوين الملائم في مجالات الفنون التشكيلية والاختصاصات المسرحية والسينما، والتعبير الجسدي والموسيقى...
وغني عن البيان أن هذه المقاربة تقتضي إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية الوطنية بكاملها وإعادة تأهيل الطواقم التدريسية فضلا عن إعادة صياغة المناهج والمقررات المدرسية بحيث يصبح بالإمكان وعلى نحو تدريجي تخطي النموذج الضيق القائم المتمثل في حصر وحشر النظام التعليمي الوطني بكامله في تعليم ابتدائي عام يفضي إلى تعليم ثانوي عام يمهد لتعليم جامعي عام دون أية مراعاة لمتطلبات سوق العمل من الموارد البشرية المؤهلة.
وكما ينبغي إنشاء مؤسسات ثانوية تكون في المجالات الآنفة الذكر ، فإنه ينبغي كذلك إعادة النظر في بنية التعليم العالي بحيث تتحول من مجموعة الكليات الهزيلة الموجودة حاليا والمكونة لجامعة واهية الدعائم قابعة على هامش الحياة الوطنية إلى كليات رفيعة المستوى ومعاهد مختصة ومراكز امتياز ومدارس عليا موزعة بشكل عقلاني داخل البلاد حسب اختصاصاتها ومطابقة تلك الاختصاصات لمتطلبات التنمية الجهوية وترقية اللامركزية على المستوى الوطني، على أن تشكل تلك المؤسسات نواة لجامعات جهوية يتم إنشاؤها على نحو تدريجي.
وبالنظر إلى المكانة السابقة التي احتلتها بلادنا على الصعيدين العربي والإفريقي في مجال العلوم الدينية واللغوية فإنه من الوارد القيام بإنشاء جامعة إسلامية بالبلاد تسهم في توسيع إشعاعها الفكري وتقوية نفوذها الروحي ضمن الفضاء الذي يكتنفها.
وفي نفس السياق تجدر الإشارة إلى أهمية إنشاء مؤسسات عليا تعنى خصيصا بالترجمة والدراسات الإستراتيجية والاستشراف وتسهر على ترقية ودفع البحث العلمي وذلك بالنظر إلى الأهمية القصوى والمكانة الإستراتيجية التي يكتسيها البحث العلمي في إنتاج المعرفة وبلورة العلوم وتطور الأمم وتقدم الشعوب وذلك باعتبار أن النمو الاقتصادي والارتقاء الاجتماعي والفكري مرتبطان ارتباطا وثيقا واضطرارديا بالعناية بالنشاطات البحثية بمختلف أنواعها. وتجدر الإشارة في هذا المضمار أن الأمم المتطورة تخصص كثر من 6،2% من مجمل دخلها القومي للبحث العلمي.
ومن ثم باتت جدوائية أية منظومة تربوية ومردودية جانبها الجامعي تقاسان بزخم الأنشطة البحثية التي تمارس في إطارها وبعدد ونوعية الاكتشافات والابتكارات والاختراعات التي تفرزها. كما أن رقي الشعوب وتمدنها وارتقاء ذائقتها العامة ومدى عنايتها بالفنون الجميلة ومظاهر الثقافة الترفيهية مرتبط بمدى عمق واتساع البحث العلمي عندها.
وخلاصة القول فإن المنظومة التعليمية الموريتانية بشقيها المتكاملين العمومي والخاص وبكل مستوياتها التي استعرضناها في ما تقدم، يجب أن لا تكون في نشاز مع ماضينا وفي خصام مع موروثنا الثقافي المشترك وفي تناقض مع قيمنا الدينية ومقوماتنا الحضارية. بل يجب أن تكون في انسجام معها كلها وان تتصف بالوظيفية والنجاعة والحداثة بحيث توجد الأرضية المواتية لقيام مشروع مجتمع موريتاني راسخ في أصالته آخذ بأسباب التقدم وقادر على كسب رهانات العصر ورفع تحديات العولمة. ولا مراء في أن قيام هكذا مشروع رهين باعتماد وتفعيل منظومة تربوية محكمة تتوخى الأصالة والانفتاح وتؤسس لتوطيد دعائم موريتانيا مسلمة عربية إفريقية موحدة في تعدديتها ومتماسكة في تنوعها. فهكذا كانت في الماضي وهكذا يجب أن تبقى في المستقبل.