بقلم:د. يوسف مكي
تزامن بروز حركة اليقظة العربية، بتراجع قوة السلطنة العثمانية، إثر استقلال دول البلقان، وتقلص هيمنتها في القارة الأوروبية، وتكالب القوى الخارجية من أجل اقتسام ممتلكاتها. ويمكن اعتبار بداية القرن التاسع عشر، نقطة البداية، في تململ العرب، وبداية يقظتهم المعاصرة، وتوقهم نحو الاستقلال.
تشكلت جمعيات سياسية عربية عدة، في الأستانا وخارجها، راوحت بين المطالبة بالحقوق الثقافية للعرب تارة، والاستقلال الذاتي تارة مع البقاء ضمن السلطنة العثمانية، والمطالبة بالانفصال الكامل عن السلطنة تارة أخرى، خاصة في المراحل الأخيرة للسلطنة.
لكن الحضور الحقيقي والمكثف لليقظة العربية المعاصرة، التي عبّرت عنها نخب من المثقفين وبقايا العالم التجاري، والفئات الريفية والوجاهات المحلية، غابت عنها الطبقة المتوسطة، رائدة التطور والملهمة للتغيير في الفكر. وكان ذلك تعبيراً عن انهيار الطبقة الرأسمالية المحلية، وضعف الطبقة المتوسطة، بفعل الصعود الكاسح للاقتصاد الأوروبي، وتدمير الصناعات الحرفية في حوض المتوسط؛ بسبب توافد المنتجات الأوروبية رخيصة السعر إلى الأسواق المحلية، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى تراجع أهمية عدد من الموانئ العربية، التي كان لها دور في رفد اقتصادات مصر وبلاد الشام.
لم يتبق في الساحة، من إمكانية قيادة العمل الوطني في مراكز اليقظة العربية، سوى بقايا العالم التجاري والفئات الريفية والوجاهات، وقد تصرفت، كوريث للثقافة التقليدية المحلية وليس كحامل للواء التنوير. لتعيش حالة انفصام مركبة. فهي لم تتمكن من القطع مع الماضي، ولم تعلن موقفاً محدداً تجاه ثقافة المستقبل.
ولأن أفكار الحداثة لا تنتج من فراغ؛ بل هي استجابة لواقع اجتماعي موضوعي، يمنحها المشروعية وصفة التقدم؛ فإن قوى التنوير تلقت ضربات عنيفة مركبة، كادت أن تودي بمشروعها. فقد صدمتها قوة شبكة العلاقات الاجتماعية القديمة، وحدت من انطلاقتها. كما أنها، واجهت احتلالاً كولونيالياً، حاولت التصدي له من غير امتلاك لمستلزمات المواجهة. فكانت النتيجة فشل ثورة عرابي في مصر عام 1919، وتوقيع اتفاقية عام 1936، بين سعد زغلول والبريطانيين، والعجز عن إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتوقيع معاهدة بارتسموث بين العراق والبريطانيين في نهاية الأربعينات.
لم تتمكن حركة اليقظة من تحقيق مهمتها التاريخية، فمن جهة شعر قادتها، نتيجة لارتباطهم العميق بالثقافة التقليدية، بخطر التغريب كمدمر حقيقي لقيم الحضارة العربية. ومن جهة أخرى غمرهم شعور بالحاجة إلى التحديث. وهكذا حاولوا المواءمة بينهما. وقد تمكنت حركة اليقظة من تحقيق بعض النجاحات، كبعث اللغة وتكييفها تكييفاً جديداً منسجماً مع متطلبات التجديد الثقافي والتقاني، وإيقاظ الروح النقدية، لكن بنيتها الفكرية والاجتماعية والثقافية، لم تسعفها في تحقيق ما هو أكثر من ذلك.
يضاف إلى ذلك، أن اليقظة العربية، بما هي مشروع للنهوض، جاءت بعد انقطاع طويل لحضور الأمة، إثر اجتياح التتار والمغول العاصمة العباسية بغداد، ومراكز الإشعاع العربية، وتواصل ذلك الانقطاع بهيمنة الحكم العثماني، على معظم أقطار الوطن العربي. بمعنى أن اليقظة العربية، لم تكن نتاج صيرورة وتراكم تاريخي؛ بل كانت مشروعاً وافداً من الغرب؛ لذلك بات صدى واهناً لتحولات دراماتيكية في المجتمعات الأوروبية، ونقلاً مشوهاً، عاجزاً عن الارتقاء بمهمته لمستوى يستوعب المحركات الذاتية، وينطلق من التربة الوطنية؛ لذا كان أداؤه يعد وجهاً آخر للعجز عن المبادرة والإبداع، وتعبيراً عن ضحالة الفكر، وهشاشة الهياكل الثقافية والفكرية والاجتماعية السائدة.
وقفت حركة اليقظة العربية، موقفاً ضبابياً ومرتبكاً من مسألة الدولة المدنية. وجاء خطابها عاطفياً ومشحوناً بتوتراتها. التزمت بموقف سلبي من الدولة الوطنية، ولم تقدم جواباً شافياً لمفهوم الأمة، تأثرت بالتنظير الأوروبي حول هذه المسألة، لكنها حين التزمت بها وطرحتها كسبيل للخروج من مأزق التخلف، اقتصرت أدبياتها على عنصر واحد هو اللغة، وغاب الحديث عن الجغرافيا والمواطنة والدولة المدنية، واعتبرت جميع هذه العناصر تخص الناطقين بالعربية وحدهم، من دون غيرهم من الأقليات القومية التي تعيش في الوطن العربي، وتحمل جنسيته.
وكانت مواقفها أيضاً مرتبكة، من عنصري النهضة؛ الحرية والعدالة. فبدلاً من ربطهما معاً في برنامج سياسي واحد، جرى تغليب أحدهما على الآخر؛ بل ووضعا في بعض المراحل التاريخية، في حالة تشابك وتعارض مع بعضهما.
ففي حين كان شعار الحرية، هو المحرك للكفاح ضد العثمانيين، والاستعمار الغربي لاحقاً، فقد تأسس النظام العربي، بعد الاستقلال، على قاعدة الصراع بين العناصر اللازمة للنهضة، بدلاً من التفاعل بينها. وكان الصراع في المجتمع العربي، بين عناوين النهضة: بين الحرية والعدل، مع أنهما عنصران لازمان لأي تقدم عربي حقيقي.
صحيفة القدس