نبذة عن حياة الشيخ محمد فال البوصادي بقلم محمد عبدالله "دلاهي" ولد أحمدو

ثلاثاء, 11/01/2022 - 08:40

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإن سير العظماء وأخبار الصالحين جُندٌ من جنود الله يثب بها عباده المؤمنين،  وهي عند بعض أئمة السلف خير من كثير من الفقه لما فيها من العبر والعظات وحسن الاقتداء، ومن حق الآباء على أبنائهم وذويهم أن يُعرفوا بهم وينشروا مناقبهم ومآثرهم ليقتدي بهم من يأتي بعدهم من الأبناء والأحفاد، ويتأكد ذلك الحق حين يكون الوالد المتحدث عنه من أفذاذ الرجال الذين أفنوا أعمارهم المديدة في خدمة مجتمعهم والسهر على رعاية مصالحهم ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ووفاء بذلك الحق سأقدم للقارئ الكريم نبذة من حياة الوالد الشيخ محمد فال ولد أحمدو ولد محمد فال البصادي الذي رحل عن دنيانا الفانية قبل أيام تاركا فراغا كبيرا في مجتمعه وقبيلته ومنطقته، وكل من عرفه.
 
أولا: نسبه ونشأته
هو محمد فال بن أحمدو بن محمد فال بن محمد نوح بن فال بن أعمر البصادي.
ينتمي لقبيلة العلم والسيادة والحكمة إدوبسات (البصاديين) التي ينتهي نسبها إلى الأنصار كما أثبته المؤرخون والنسابون، وهو من بطن ادقميامه الذي يسكن في قرى مشهورة في الحوض الغربي.
 
وأمه المرأة الصالحة الصوامة القوامة عيشة بنت اعلي بن محمود، وهي من قبيلة الاقلال البكرية، من بطن أهل أحمد طالب  الأماجد.
 
ولد صاحب الترجمة عام 1922م في منطقة "أم لخشب"  بولاية الحوض الغربي.
 
ثانيا: طلبه للعلم
 
أخذ صاحب الترجمة القرآن حفظا وتجويدا ورسما على يد والده أحمدو ولد محمد فال المشهور بتدريس القرآن في سن مبكرة، وقد حافظ طيلة حياته رغم مشاغله الجمة، والصوارف الكثيرة على تلاوة الكتاب الكريم وتدبره وقيام الله به، وكان من كثرة تعهده له أنه ختمه كاملا مرة في يوم واحد، واستمر على تلاوته من فضل الله تعالى ليلا ونهارا حتى في سنواته الأخيرة التي لازم فيها الفراش، "وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته".
 
وقد أخذ –رحمه الله- العلم عن جماعة من علماء عصره في عدد من المحاظر في المنطقة أبرزهم:
-الديه بن محمد يحظيه
-الشيخ بن ميني
-محمد فال بن إسحاق
-محمد بن لحبيب الكبير
 
وقد كان أكثر اشتغاله بأحكام العبادات وخصوصا الصلاة باعتبارها "عماد الدين" حتى صار مرجعا في دقائق أحكامها، وللدلالة على صعوبة الإحاطة بأحكام الصلاة يروى أن مشايخ محظرة أهل محمد ولد محمد سالم المجلسيين كانوا يقولون: "لقد أتقنا كافة العلوم إلا الصلاة، فقد أعجزتنا" (ورجعنا عنها وأثرها أبيض)، وهي كلمة تقال في شأن الضالة إذا أعجزت طالبها.
 
ثالثا: دوره الاجتماعي.
عاش محمد فال ولد أحمدو حياته في خدمة مجتمعه بكل إخلاص وتفان، وهذا ميدانه الذي برز فيه، ومجاله الذي فاق فيه الأقران، وديدنه الذي عرف به، فقد كان جالبا للمصالح وتكثيرها، ساعيا لتحصيل المنافع العامة وتسهيل الوصول إليها، فقد ذلَّل الصعاب من حفر الآبار وإقامة السدود، وبناء المدارس، وجمع الكلمة على الفضيلة والتقوى، فكان ذلك هو السبب وراء إقامة قرية (ازميته) التي تم تأسيسها سنة 1975م.
 
وكان قبل ذلك أقام سد (اغليك ازميته) سنة 1965م، وكان يقوم  بتجديده وترميمه بنفسه كل سنة حتى أرسلت الدولة بعثة من وزارة التنمية الريفية سنة 1980م فقامت بتشييد سد عصري ما زال قائما حتى الآن، وفي سنة 1994م التقى بالرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع وطلب منه إقامة مضخة مائية في القرية فكان له ما أراد، وكانت بشرى كبيرة في القرية التي عانت من العطش والآبار المالحة، ولما توسعت القرية التقى بالرئيس اعلي ولد محمد فال سنة 2007م وطلب منه تجديد المضخة، وهو ما تم بالفعل، ولا يخفى ما في  سقي العطاش من الناس والدواب من الأجر الجزيل والفضل العظيم.
 
كما التقى في سبيل مصالح القرية وخدمة أهلها بالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في نواكشوط سنة 2009م، وكان يسانده ويساعده في كل ما يقوم به من الأمور العامة إخوته الأبرار  وأبناء عمه الأخيار، فكانوا له خير سند، وأفضل معين في التعاون على البر والتقوى.
 
 
تقلد الوالد في فترة من الفترات عضوية مجلس ميزانية الحوض الغربي، وكانت حياته التي امتدت بحمد الله لنحو قرن من الزمان مسخرة بالكامل لخدمة المجتمع والسعي لمصالحه العامة، وضحى في سبيل تحقيق أهدافه النبيلة بمصالحه الخاصة؛ فكم من محتاج أعانه، ومكروب فرج كربته، وضيف أحسن قراه،  وكان بحق واصلا للرحم صديق الحديث دقيقه، معينا على النوائب، فقد أخذ من صفات وهدي النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفته أمنا خديحة بنت خويلد رضي الله عنها في قولها "والله لا يخزيك الله أبدا وإنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الحق".
 
ومن مظاهر حرصه على مصلحة المجتمع وخدمته أنه كان لا يسمع بأحدٍ من جماعته في مكانٍ غير مناسبٍ إلا سافر إليه وأتى به إلى أهله وذويه، ولا يسمع بأحدٍ من المشعوذين (الحجابة) دخل الحي أو القرية بغية التكسب من النساء وضعاف العقول إلا طرده فوراً فكان للجماعة كيعسوب النحل للنحل.
 
 
وكانت له سمعة طيبة واحترام عام وعلاقات وطيدة في قبائل شتى يقدره قادتها أعظم تقدير وهو حريص على حسن الجوار والدفع بالتي هي أحسن في جميع علاقاته التي امتدت وتعمقت مع المسؤولين ووجهاء المجتمعات، وكانت له علاقة قوية بمجموعة من رجال الحل والعقد، والوجهاء في المنطقة منهم على سبيل المثال لا الحصر:
 

الأمانه ولد الشيخ المهدي وابن أخيه سيد المصطف ولد اتلاميد

الشيخ سعد بوه ولد الشيخ التراد وابنه الشيخ حمَّ

امحمد ولد عبد الله

هاشم ولد اشريف

الدي ولد ابراهيم 

اباهي ولد بكار الشين

اسويد أحمد ولد المامي وابنه حمادي

 
وكان علماء القبيلة وقضاتها يجلونه غاية الإجلال، ويقدرونه منتهى التقدير،  ويرجعون إلى رأيه ومشورته لتسوية أي نزاع يحدث، أو خلاف أو احتكاك بين الأفراد أو المجموعات، كما كان صديقا وفيا لهم مجلا لهم ومقدرا لما يقومون به من تعليم وقضاء وإصلاح.
والعلماء المذكورون مثل:

امرابط التلاميد محمد محمود ولد احبيب

امرابط التلاميد (داداه) محمد فال ولد إسحاق

العلامة النحرير القاضي محمد فاضل ولد سيدي ولد ابراهيم ولد جد امو

 
 
ثالثا: مميزاته الشخصية:
 
يتميز الشيخ محمد فال ولد أحمدو بخصال حميدة ومناقب فذة بلغ فيها درجة عالية منها السخاء، والذكاء، والشجاعة.
 
فمن جوده أنه كان يقصده أهل الحاجات فيجزل لهم العطاء، وخصوصا الأسر الفنية في المنطقة مثل أهل أعمر تيشيت، وأهل السيد وغيرهم كلهم يفد إليه فيرجعون بأموال طائلة وهدايا منوعة فيرتحلون وهم يثنون على جوده وكرمه، وقد مدحه بعض الشعراء بهذه الخصال مثل الشاعر سليمان ولد سيدي التندغي الذي كتب فيه قصائد من الشعر الشعبي ضمنها ديوان خاص كتبه في مدحه.
  وهو في غاية الذكاء وسرعة الاستيعاب، فلا تكاد تحدثه في أمر مهما كان معقدا إلا وبادرك بقوله: فهمت، فهمت، وهو ضابط يحكي الحكايات التي مرت عليه عقود طويلة بنفس الصيغة والرواية من غير أن يخرم منها حرفا.
 
وكان إلى جانب سخائه وذكائه فارسا مغوارا يحسن ركوب الخيل والرماية، وكان له إسطبل من جياد الخيل، ويشرف بنفسه على سباقهم أيام الأعياد، وكان من بينهم حصان من حرائر الخيل الأصيلة أهداه له سليل إمارة إدوعيش الدي ولد إبراهيم عام 1969م، وكانت جياد الخيل في ذلك الوقت تحظى في ذلك الوقت بتقدير كبير في المنطقة.  
 
 
 
وأما شجاعته النادرة فهي محل اتفاق ممن عرفوه أو عاشوا في محيطه، وسنروي في ذلك قصصا متواترة تتضمن مواجهات ملحمية جعلته يقف وجها لوجه مرة مع الأسد، ومرة مع النمر، ومرة ثالثة مع لص فاتك قاطع طريق، وسنكتب هذه القصص الثلاث بأمانة أولا: لطرافتها، وثانيا: لما تدل عليه من تحديات الظروف وقساوة نمط الحياة في ذلك الزمن، وثالثا: لما تدل عليه من شجاعة وبسالة صاحب الترجمة -رحمه الله-.
فقد حدث أنه في إحدى الليالي والحي في أرض مالي حيث ينتجعون في أحد فصول السنة انقض أسد على الغنم وحمل بين فكيه نعجة يقول في صفتها أن (غاربها أحمر) وخرج بها مهرولا فابتدر صاحب الترجمة وعدا خلف الأسد حتى صار إذا مد يده تصل إليه، وصاح عليه بكل قوته، فألقى الأسد الشاة ولاذ بشجرة قريبة، وزأر حتى خيل له لصاحب الترجمة أن الأرض قد انزوت من تحت قدميه، ولكنه ثبت مكانه، ونادى على من يأتيه بمدية أو سكين ليذبح النعجة، فهب أخوه الصغير (محمد) -حفظه الله- وهو غلام بذؤابته، وجاءه بالسكين، فذبح النعجة وحملاها إلى الخيمة.
 
وأما قصته مع النمر فوقعت له في مكان غرب مدينة العيون يعرف بـ"ادخيلت النمر" على بعد نحو خمسة وعشرين كيلو متر، وكان وهو شاب يسوق غنمه في شعب ذلك الجبل المعروف بكثرة النمور بعد الغروب، فكان يستشعر الخوف والحذر من هجمة النمر المباغتة، فلم يشعر إلا والنمر قد صرع جفرة (حولية) على جانب صخرة بجواره، قال: فقفزت إليه،  فقفز النمر مبتعدا، فأخذت فأسا صغيرة كانت معي وأحددتها على صفاة، وذبحت الشاة بها، وحملتها وسرت في طريقي، وبعد خطوات عاودني الشعور بالخوف والحذر من النمر لو هجم علي لاسترجاع فريسته، فألقيت الشاة، وركضت إلى الحي وقصصت القصة على والدي فذهب معي فورا إلى مكان الشاة فوجدناها بحالها وحملناها معا.
 
 
وأما قصته مع اللص قاطع الطريق فهي كالتالي: كان هناك جماعة من اللصوص تختبئ في الجبال يعرفون بـ"أهل الكدية" يحترفون الحرابة والسطو، وكان ذلك في بداية الأربعينات من القرن العشرين وكان لهم كبير مشهور بالفتك والجرأة قد أعجز حكومة المستعمر، وهرب من السجون أكثر من مرة، شن أهل الكدية هؤلاء الغارة على الحي ليلا وسرقوا ما وجدوا من اللباس والأشياء الثمينة، واقتفى ثلاثة رجال من بينهم صاحب الترجمة آثار اللصوص ، والرجلان الآخران هما محمد الأمين ولد سيدي أحمد من أسرة "أهل كبه" وديده ولد اباه من أسرة "أهل سيد أحمد"، وحين وصلوا إلى مخبأ اللصوص في جرف الجبل خرج عليهم الفاتك المشهور، ووقف قبالتهم وفي إحدى يديه سكين وفي الأخرى صخرة، ثم أقسم بالله أن من يصل إليه سيلقى حتفه، فتقدم إليه الوالد محمد فال، فأمسك به صاحباه وكانا أسن منه وأكثر تجربة، ولم يسمحا له بالمخاطرة بروحه، ولكنه استطاع أن ينفلت منهما فجأة، وبسرعة خاطفة هجم على اللص، فرماه بالصخرة فتطامن عن الرمية، فدخلت الصخرة في لمته وكانت وافرة فلم تصبه بأذى ، واشتبك مع اللص ممسكا بيده التي تحمل السكين ، ثم التحق به صاحباه وسيطروا على اللص،  وساقوه مكبلا إلى الحي بعد أن استرجعوا ما بيده يده من مسروقات كثيرة بعضها لهم، وبعضها لمجموعات أخرى من ضمنها ثلاث رؤوس من الإبل لبعض المجموعات الأخرى.
 
ثم تشاوروا في تقديمه للسلطات، واتفق أن المستعمر في تلك السنة كان متشددا في أي نزاع بعد حرب "أم اشكاك"، فكان يأخذ البريء والمجرم ويعاقبها جميعا، فأطلقوا سراحه لذلك السبب.
 
خاتمة
نستخلص مما سبق مما اثبتناه من ترجمة هذا الشيخ أننا نتحدث عن شخصية لها أكثر من صفة مميزة،  فهو قائد بطبعه، يتمتع بشخصية فريدة طبعت على الإيثار والتضحية والجود والشجاعة في المواقف الحرجة، والجود والشجاعة رضيعا لبان قل أن يتفرقا، لأنهما فرعان من أصل واحد كما قال الشاعر "والجود بالنفس أقصى غاية الجود".
 
وهو شخصية عامة لها علاقات واسعة بأعيان المجتمع، وقد نسج شبكة من العلاقات المفيدة مع كبار الشخصيات الفاعلة في الساحة السياسية والاجتماعية. وهو قبل هذا وذاك شخصية علمية ودينية مهيبة، تطبع سيرته الاستقامة الخلقية، والامتثال لأوامر الدين من تلاوة القرآن، والصبر على العبادة بالصوم والصلاة، وحسن الظن بالله والناس  له، وغير ذلك من الطاعات والقربات، وقد حباه الله  بتمام العقل، والاحتفاظ بالذاكرة رغم طول عمره الذي زاد على  المائة، وقد ختم هذا العمر المديد العامر بما ينفع الناس ويمكث في الأرض  مساء يوم السبت 29 من شهر الله المحرم 1444هـ الموافق يوم ٢٧ أغسطس ٢٠٢٢ تغمده الله بواسع رحمته حيث دفن بجوار والديه وسط مقبرة تا مورت ازميته.
 
 
وخير الختام ننشر هنا ما كتبه ابننا الدكتور إبراهيم الدويري يوم رحيل الوالد برد الله مضجعه تحت عنوان "إلى جنة الخلد يا والد الجميع"
 
طيلة الأشهر الماضية كنت معرضا عن الشعر لا أتصفح ديوانا، ولا أستمع لإنشاد القوافي على كثرتها في اليوتيوب والوسائط الأخرى غير أني في هذه الأسابيع الأخيرة كنت لا أجد وقتا إلا استمعت لقصيدة مروان بن أبي حفصة اللامية المشهورة في رثاء الأمير معن بن زائدة الشيباني، هذا الأمير المخضرم الذي عاصر الدولتين الأموية والعباسية، واستطاع لقوة عزيمته، وعلو همته، وسخاء نفسه، وشجاعة قلبه، وكرم محتده؛ أن يكون الرجل الأشهر مدائح ومراثي ومناقب ومآثر في ذلك العصر المليء بالرجال الكُمَّلِ، وكنت كلما سمعت المآثر الخالدة لمعن بن زائدة في القصيدة التي أدمنتها مؤخرا تداعت إلى ذهني مشاهد حية من صفات الوالد الماجد والقانت الأواه رجل الدين والدنيا محمد فال ولد أحمدو "افال" برد الله مضجعه.
 
فهذا الرجل الفذُّ الذي قضت قرية ازميته أمس فاتح صفر الخير من عام 1444 هجرية الموافق 28 أغسطس 2022م يومها الحزين الأول بدونه منذ أسسها حوالي 1976م  وأشرف على مصالح أهلها إشراف الناصح الأمين والمحتسب الراشد، كان قائدا عصاميا جمع أطراف السيادة بحمله الكَلَّ وقراه الضيف وإعانته على نوائب الحق؛ فخلال عقود من الزمن لم ير أهل القرية "افال" خارجا من منزله المبارك إلا إلى الصف الأول في المسجد أو لجلب مصلحة عامة للقرية أو درء مفسدة عنها؛ فمن "لغليك" غربا بسده العالي وتعلمنا للسباحة فيه، وعطائه الزراعي في أعوام شديدة كان هو السلة الغذائية الرئيسية في القرية، إلى حنفيات الماء العذب شرقا وجنوبا إلى مصالح الناس في الإدارات وربط علاقات أخوية متينة مع القرى والقبائل المجاورة، واستقبال الضيوف من الرسميين والسائلين وعابري السبيل في كل هذا تجد افال يتصدى لحمل تلك الأثقال بصبر وأناة وانشراح صدر "كأنك تعطيه الذي أنت سائله".
 
في مطلع التسعينات وبداية هبوب رياح العولمة على القرى الموريتانية وقف "افال" بالمرصاد لكل المسلكيات المخالفة للشريعة من مظاهر البذخ واللهو المنحرف في المناسبات الاجتماعية وإطلاق الأعيرة النارية التي ترعب الناس وتزعجهم، إلى تحريم التدخين وبيع آلاته في القرية، وملاحقة لاعبي الورق، ومظاهر الاختلاط، فما كانت مثل هذه المناكر التي كانت كبائر في تلك الأيام يمكن أن تقام أو تمارس في حمى ازميته بسبب قرارات "افال" ومضاء كلمته وهيبة الناس له، فقد أرادها قرية مبنية على تقوى الله وتلاوة كتابه آناء الليل وأطراف النهار، وكانت كذلك في ذلك الزمن الجميل.
 
 وإن أنس كل شيء فلن أنسى مشهدا علق بالذاكرة وترك أثرا لم تمحه الليالي ولم تنل منه الأيام، فكيف أنسى تلك الليالي الشتوية القارسة التي كان شيخنا القرآني الأستاذ محمد المختار ولد أحمد زيدان يسكن عند "أهل افال الغربيين" فكنا نأتي للدراسة ثلث الليل الأخير؛ فلَكَم رأيت بعيني وسمعت بأذني "افال" وهو الحافظ المتقن لكتاب الله قائما الليلَ يصلي في ذلك البرد القارس يتلو آيات ربه ويرجو رحمته مع مقاساته "للظيك": الربو) الذي كان يشتد عليه في فصل الشتاء فلا يمنعه ذلك من مناجاة ربه بتلاوة كتابه، وكان يتلو حتى تتوقف أنفاسه فيهدأ ثم يواصل {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ}، وكيف أنساه وهو يقاسي الأنفاس بشدة وهو يتأنق في الحواميم، ويطرب في سورتي الرحمن والواقعة كأنه يغذ السير إلى ما وعد الله عباده المتقين وأصفياءه المقربين في تينك السورتين.
 
آه يا أبا المكرمات يعرف كُلُّ مَنْ عَرَفَكَ وخَبَرَ عطاءك وصبرك وحلمك وعفوك وحسن ظنك بالله وبالناس  أن عدَّ الحصى أهون من إحصاء مناقبك، ويعلم الله يا أبتِ كم تهيبت هذا اليوم الذي تشرق شمسه بدونك، ولكنا لا نقول إلا ما يرضي الرب إنا لله وإنا إليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد فاجأنا خبر رحيلك يا افال، وأثقلت مصيبة فقدك كواهلنا؛ فمن يدلنا على معالي الأمور بعدك؟ ومن يأخذ بأيدينا إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟ ومن لنا بتلك الدعوات المباركات التي كانت تخرج من قلب حي متعلق بالله فتظلل أبناءك في أصقاع الدنيا فتنزل عليهم  بردا وسلاما وطمأنينة؟ وأين بعدك سنرى المكارم والمآثر في صورة رجل يمشي على قدمين؟.
 
حين علمت برحيلك ياوالدي حاولت أن أتماسك لمعرفتي أنك قادم إلى رب كريم طالما أحسنت به الظن، وإلى موقف طالما أعددت له ظمأ الهواجر وسهر الليالي، والإحسان إلى عباد الله، وكظم الغيظ والتعالي عن سفاسف الأمور، وحفظ اللسان وطيب المجلس طيلة قرن من الزمان كنت فيه الشاكر الحامد الصابر لكني حين أتذكر حال والدي وأخيك "بدَّ" وأنت آخر أخ له في الدنيا تخنقني العبرة ويكاد نشيجي يتعالى في غربتي ثم أتذكر أحاديث بَدَّ الحسان عنك وعن ذكره لمآثرك من صبر وشجاعة وإقدام وسخاء وجد، ثم يختصر تلك المآثر كلها بأنه لم ير أحسن منك سريرة، ولا أنقى قلبا، ولا أحسن ظنا بالله وبخلقه منك، وتلك شهادة من والدي شقيقك الذي تعلم تقديسه للصدق ومجافاته للمجاملات، وهي شهادة من رجل خبر الرجال في الأسفار ومواقف الشدة.
 
لن يجد أخوك بَدَّ اليوم أصدق فيك من قول كعب بن سعد الغنوي في أخيه أبي المغوار:
لَعَمري لَئِن كانَت أَصابَت مَنِيَّةٌ ... أَخي وَالمَنايا لِلرِجالِ شَعوبُ
لَقَد كانَ أَمّا حِلمُهُ فَمُرَوِّحٌ ... عَلَيَّ وَأَمّا جَهلُهُ فَعَزيبُ
أَخي ما أَخي لا فاحِشٌ عِندَ بيته ... وَلا وَرِعٌ عِندَ اللِقاءِ هَيوبُ
أَخٌ كانَ يَكفيني وكانَ يُعينُني ... عَلى النائِباتِ السُودِ حينَ تَنوبُ
حَليمٌ إِذا ما سَورَةُ الجَهلِ أَطلَقَت ... حُبى الشَيبِ لِلنَفسِ اللَجوجِ غَلوبُ
هُوَ العَسَلُ الماذِيُّ حِلماً وَشيمَةً ...  وَلَيثٌ إِذا لاقى العُداةَ قَطوبُ.
 
في آخر زيارة لك في فبراير الماضي كان الحمد يملأ فاك، والشكر يعطر لسانك تحدث زائريك بنعمة ربك عليك في الدين والدنيا والعمر الذي ملأته طاعة، وكانت إغفاءاتك الخفيفة جولة في ملكوت الله تحدث بعدها عن أسلافك وما أعد الله للمتقين والأبرار، كانت مصافحتك بلسما يشفي جراح أبنائك وعيالك وكلنا لك أبناء وعيال، ففي مثلك يعزى الجميع وبنفسي أبدأ ثم أعزي أبناءك الأبرار جيعا وأعزي ازميته في مصابها الأجل، ولن نقول إلا ما يرضي خالقنا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو حسبنا نعم الوكيل.
 عن حياة الشيخ محمد فال البوصادي بقلم محمد عبدالله "دلاهي" ولد أحمدو :

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإن سير العظماء وأخبار الصالحين جُندٌ من جنود الله يثب بها عباده المؤمنين،  وهي عند بعض أئمة السلف خير من كثير من الفقه لما فيها من العبر والعظات وحسن الاقتداء، ومن حق الآباء على أبنائهم وذويهم أن يُعرفوا بهم وينشروا مناقبهم ومآثرهم ليقتدي بهم من يأتي بعدهم من الأبناء والأحفاد، ويتأكد ذلك الحق حين يكون الوالد المتحدث عنه من أفذاذ الرجال الذين أفنوا أعمارهم المديدة في خدمة مجتمعهم والسهر على رعاية مصالحهم ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ووفاء بذلك الحق سأقدم للقارئ الكريم نبذة من حياة الوالد الشيخ محمد فال ولد أحمدو ولد محمد فال البصادي الذي رحل عن دنيانا الفانية قبل أيام تاركا فراغا كبيرا في مجتمعه وقبيلته ومنطقته، وكل من عرفه.
 
أولا: نسبه ونشأته
هو محمد فال بن أحمدو بن محمد فال بن محمد نوح بن فال بن أعمر البصادي.
ينتمي لقبيلة العلم والسيادة والحكمة إدوبسات (البصاديين) التي ينتهي نسبها إلى الأنصار كما أثبته المؤرخون والنسابون، وهو من بطن ادقميامه الذي يسكن في قرى مشهورة في الحوض الغربي.
 
وأمه المرأة الصالحة الصوامة القوامة عيشة بنت اعلي بن محمود، وهي من قبيلة الاقلال البكرية، من بطن أهل أحمد طالب  الأماجد.
 
ولد صاحب الترجمة عام 1922م في منطقة "أم لخشب"  بولاية الحوض الغربي.
 
ثانيا: طلبه للعلم
 
أخذ صاحب الترجمة القرآن حفظا وتجويدا ورسما على يد والده أحمدو ولد محمد فال المشهور بتدريس القرآن في سن مبكرة، وقد حافظ طيلة حياته رغم مشاغله الجمة، والصوارف الكثيرة على تلاوة الكتاب الكريم وتدبره وقيام الله به، وكان من كثرة تعهده له أنه ختمه كاملا مرة في يوم واحد، واستمر على تلاوته من فضل الله تعالى ليلا ونهارا حتى في سنواته الأخيرة التي لازم فيها الفراش، "وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته".
 
وقد أخذ –رحمه الله- العلم عن جماعة من علماء عصره في عدد من المحاظر في المنطقة أبرزهم:
-الديه بن محمد يحظيه
-الشيخ بن ميني
-محمد فال بن إسحاق
-محمد بن لحبيب الكبير
 
وقد كان أكثر اشتغاله بأحكام العبادات وخصوصا الصلاة باعتبارها "عماد الدين" حتى صار مرجعا في دقائق أحكامها، وللدلالة على صعوبة الإحاطة بأحكام الصلاة يروى أن مشايخ محظرة أهل محمد ولد محمد سالم المجلسيين كانوا يقولون: "لقد أتقنا كافة العلوم إلا الصلاة، فقد أعجزتنا" (ورجعنا عنها وأثرها أبيض)، وهي كلمة تقال في شأن الضالة إذا أعجزت طالبها.
 
ثالثا: دوره الاجتماعي.
عاش محمد فال ولد أحمدو حياته في خدمة مجتمعه بكل إخلاص وتفان، وهذا ميدانه الذي برز فيه، ومجاله الذي فاق فيه الأقران، وديدنه الذي عرف به، فقد كان جالبا للمصالح وتكثيرها، ساعيا لتحصيل المنافع العامة وتسهيل الوصول إليها، فقد ذلَّل الصعاب من حفر الآبار وإقامة السدود، وبناء المدارس، وجمع الكلمة على الفضيلة والتقوى، فكان ذلك هو السبب وراء إقامة قرية (ازميته) التي تم تأسيسها سنة 1975م.
 
وكان قبل ذلك أقام سد (اغليك ازميته) سنة 1965م، وكان يقوم  بتجديده وترميمه بنفسه كل سنة حتى أرسلت الدولة بعثة من وزارة التنمية الريفية سنة 1980م فقامت بتشييد سد عصري ما زال قائما حتى الآن، وفي سنة 1994م التقى بالرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع وطلب منه إقامة مضخة مائية في القرية فكان له ما أراد، وكانت بشرى كبيرة في القرية التي عانت من العطش والآبار المالحة، ولما توسعت القرية التقى بالرئيس اعلي ولد محمد فال سنة 2007م وطلب منه تجديد المضخة، وهو ما تم بالفعل، ولا يخفى ما في  سقي العطاش من الناس والدواب من الأجر الجزيل والفضل العظيم.
 
كما التقى في سبيل مصالح القرية وخدمة أهلها بالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في نواكشوط سنة 2009م، وكان يسانده ويساعده في كل ما يقوم به من الأمور العامة إخوته الأبرار  وأبناء عمه الأخيار، فكانوا له خير سند، وأفضل معين في التعاون على البر والتقوى.
 
 
تقلد الوالد في فترة من الفترات عضوية مجلس ميزانية الحوض الغربي، وكانت حياته التي امتدت بحمد الله لنحو قرن من الزمان مسخرة بالكامل لخدمة المجتمع والسعي لمصالحه العامة، وضحى في سبيل تحقيق أهدافه النبيلة بمصالحه الخاصة؛ فكم من محتاج أعانه، ومكروب فرج كربته، وضيف أحسن قراه،  وكان بحق واصلا للرحم صديق الحديث دقيقه، معينا على النوائب، فقد أخذ من صفات وهدي النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفته أمنا خديحة بنت خويلد رضي الله عنها في قولها "والله لا يخزيك الله أبدا وإنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الحق".
 
ومن مظاهر حرصه على مصلحة المجتمع وخدمته أنه كان لا يسمع بأحدٍ من جماعته في مكانٍ غير مناسبٍ إلا سافر إليه وأتى به إلى أهله وذويه، ولا يسمع بأحدٍ من المشعوذين (الحجابة) دخل الحي أو القرية بغية التكسب من النساء وضعاف العقول إلا طرده فوراً فكان للجماعة كيعسوب النحل للنحل.
 
 
وكانت له سمعة طيبة واحترام عام وعلاقات وطيدة في قبائل شتى يقدره قادتها أعظم تقدير وهو حريص على حسن الجوار والدفع بالتي هي أحسن في جميع علاقاته التي امتدت وتعمقت مع المسؤولين ووجهاء المجتمعات، وكانت له علاقة قوية بمجموعة من رجال الحل والعقد، والوجهاء في المنطقة منهم على سبيل المثال لا الحصر:
 

الأمانه ولد الشيخ المهدي وابن أخيه سيد المصطف ولد اتلاميد

الشيخ سعد بوه ولد الشيخ التراد وابنه الشيخ حمَّ

امحمد ولد عبد الله

هاشم ولد اشريف

الدي ولد ابراهيم 

اباهي ولد بكار الشين

اسويد أحمد ولد المامي وابنه حمادي

 
وكان علماء القبيلة وقضاتها يجلونه غاية الإجلال، ويقدرونه منتهى التقدير،  ويرجعون إلى رأيه ومشورته لتسوية أي نزاع يحدث، أو خلاف أو احتكاك بين الأفراد أو المجموعات، كما كان صديقا وفيا لهم مجلا لهم ومقدرا لما يقومون به من تعليم وقضاء وإصلاح.
والعلماء المذكورون مثل:

امرابط التلاميد محمد محمود ولد احبيب

امرابط التلاميد (داداه) محمد فال ولد إسحاق

العلامة النحرير القاضي محمد فاضل ولد سيدي ولد ابراهيم ولد جد امو

 
 
ثالثا: مميزاته الشخصية:
 
يتميز الشيخ محمد فال ولد أحمدو بخصال حميدة ومناقب فذة بلغ فيها درجة عالية منها السخاء، والذكاء، والشجاعة.
 
فمن جوده أنه كان يقصده أهل الحاجات فيجزل لهم العطاء، وخصوصا الأسر الفنية في المنطقة مثل أهل أعمر تيشيت، وأهل السيد وغيرهم كلهم يفد إليه فيرجعون بأموال طائلة وهدايا منوعة فيرتحلون وهم يثنون على جوده وكرمه، وقد مدحه بعض الشعراء بهذه الخصال مثل الشاعر سليمان ولد سيدي التندغي الذي كتب فيه قصائد من الشعر الشعبي ضمنها ديوان خاص كتبه في مدحه.
  وهو في غاية الذكاء وسرعة الاستيعاب، فلا تكاد تحدثه في أمر مهما كان معقدا إلا وبادرك بقوله: فهمت، فهمت، وهو ضابط يحكي الحكايات التي مرت عليه عقود طويلة بنفس الصيغة والرواية من غير أن يخرم منها حرفا.
 
وكان إلى جانب سخائه وذكائه فارسا مغوارا يحسن ركوب الخيل والرماية، وكان له إسطبل من جياد الخيل، ويشرف بنفسه على سباقهم أيام الأعياد، وكان من بينهم حصان من حرائر الخيل الأصيلة أهداه له سليل إمارة إدوعيش الدي ولد إبراهيم عام 1969م، وكانت جياد الخيل في ذلك الوقت تحظى في ذلك الوقت بتقدير كبير في المنطقة.  
 
 
 
وأما شجاعته النادرة فهي محل اتفاق ممن عرفوه أو عاشوا في محيطه، وسنروي في ذلك قصصا متواترة تتضمن مواجهات ملحمية جعلته يقف وجها لوجه مرة مع الأسد، ومرة مع النمر، ومرة ثالثة مع لص فاتك قاطع طريق، وسنكتب هذه القصص الثلاث بأمانة أولا: لطرافتها، وثانيا: لما تدل عليه من تحديات الظروف وقساوة نمط الحياة في ذلك الزمن، وثالثا: لما تدل عليه من شجاعة وبسالة صاحب الترجمة -رحمه الله-.
فقد حدث أنه في إحدى الليالي والحي في أرض مالي حيث ينتجعون في أحد فصول السنة انقض أسد على الغنم وحمل بين فكيه نعجة يقول في صفتها أن (غاربها أحمر) وخرج بها مهرولا فابتدر صاحب الترجمة وعدا خلف الأسد حتى صار إذا مد يده تصل إليه، وصاح عليه بكل قوته، فألقى الأسد الشاة ولاذ بشجرة قريبة، وزأر حتى خيل له لصاحب الترجمة أن الأرض قد انزوت من تحت قدميه، ولكنه ثبت مكانه، ونادى على من يأتيه بمدية أو سكين ليذبح النعجة، فهب أخوه الصغير (محمد) -حفظه الله- وهو غلام بذؤابته، وجاءه بالسكين، فذبح النعجة وحملاها إلى الخيمة.
 
وأما قصته مع النمر فوقعت له في مكان غرب مدينة العيون يعرف بـ"ادخيلت النمر" على بعد نحو خمسة وعشرين كيلو متر، وكان وهو شاب يسوق غنمه في شعب ذلك الجبل المعروف بكثرة النمور بعد الغروب، فكان يستشعر الخوف والحذر من هجمة النمر المباغتة، فلم يشعر إلا والنمر قد صرع جفرة (حولية) على جانب صخرة بجواره، قال: فقفزت إليه،  فقفز النمر مبتعدا، فأخذت فأسا صغيرة كانت معي وأحددتها على صفاة، وذبحت الشاة بها، وحملتها وسرت في طريقي، وبعد خطوات عاودني الشعور بالخوف والحذر من النمر لو هجم علي لاسترجاع فريسته، فألقيت الشاة، وركضت إلى الحي وقصصت القصة على والدي فذهب معي فورا إلى مكان الشاة فوجدناها بحالها وحملناها معا.
 
 
وأما قصته مع اللص قاطع الطريق فهي كالتالي: كان هناك جماعة من اللصوص تختبئ في الجبال يعرفون بـ"أهل الكدية" يحترفون الحرابة والسطو، وكان ذلك في بداية الأربعينات من القرن العشرين وكان لهم كبير مشهور بالفتك والجرأة قد أعجز حكومة المستعمر، وهرب من السجون أكثر من مرة، شن أهل الكدية هؤلاء الغارة على الحي ليلا وسرقوا ما وجدوا من اللباس والأشياء الثمينة، واقتفى ثلاثة رجال من بينهم صاحب الترجمة آثار اللصوص ، والرجلان الآخران هما محمد الأمين ولد سيدي أحمد من أسرة "أهل كبه" وديده ولد اباه من أسرة "أهل سيد أحمد"، وحين وصلوا إلى مخبأ اللصوص في جرف الجبل خرج عليهم الفاتك المشهور، ووقف قبالتهم وفي إحدى يديه سكين وفي الأخرى صخرة، ثم أقسم بالله أن من يصل إليه سيلقى حتفه، فتقدم إليه الوالد محمد فال، فأمسك به صاحباه وكانا أسن منه وأكثر تجربة، ولم يسمحا له بالمخاطرة بروحه، ولكنه استطاع أن ينفلت منهما فجأة، وبسرعة خاطفة هجم على اللص، فرماه بالصخرة فتطامن عن الرمية، فدخلت الصخرة في لمته وكانت وافرة فلم تصبه بأذى ، واشتبك مع اللص ممسكا بيده التي تحمل السكين ، ثم التحق به صاحباه وسيطروا على اللص،  وساقوه مكبلا إلى الحي بعد أن استرجعوا ما بيده يده من مسروقات كثيرة بعضها لهم، وبعضها لمجموعات أخرى من ضمنها ثلاث رؤوس من الإبل لبعض المجموعات الأخرى.
 
ثم تشاوروا في تقديمه للسلطات، واتفق أن المستعمر في تلك السنة كان متشددا في أي نزاع بعد حرب "أم اشكاك"، فكان يأخذ البريء والمجرم ويعاقبها جميعا، فأطلقوا سراحه لذلك السبب.
 
خاتمة
نستخلص مما سبق مما اثبتناه من ترجمة هذا الشيخ أننا نتحدث عن شخصية لها أكثر من صفة مميزة،  فهو قائد بطبعه، يتمتع بشخصية فريدة طبعت على الإيثار والتضحية والجود والشجاعة في المواقف الحرجة، والجود والشجاعة رضيعا لبان قل أن يتفرقا، لأنهما فرعان من أصل واحد كما قال الشاعر "والجود بالنفس أقصى غاية الجود".
 
وهو شخصية عامة لها علاقات واسعة بأعيان المجتمع، وقد نسج شبكة من العلاقات المفيدة مع كبار الشخصيات الفاعلة في الساحة السياسية والاجتماعية. وهو قبل هذا وذاك شخصية علمية ودينية مهيبة، تطبع سيرته الاستقامة الخلقية، والامتثال لأوامر الدين من تلاوة القرآن، والصبر على العبادة بالصوم والصلاة، وحسن الظن بالله والناس  له، وغير ذلك من الطاعات والقربات، وقد حباه الله  بتمام العقل، والاحتفاظ بالذاكرة رغم طول عمره الذي زاد على  المائة، وقد ختم هذا العمر المديد العامر بما ينفع الناس ويمكث في الأرض  مساء يوم السبت 29 من شهر الله المحرم 1444هـ الموافق يوم ٢٧ أغسطس ٢٠٢٢ تغمده الله بواسع رحمته حيث دفن بجوار والديه وسط مقبرة تا مورت ازميته.
 
 
وخير الختام ننشر هنا ما كتبه ابننا الدكتور إبراهيم الدويري يوم رحيل الوالد برد الله مضجعه تحت عنوان "إلى جنة الخلد يا والد الجميع"
 
طيلة الأشهر الماضية كنت معرضا عن الشعر لا أتصفح ديوانا، ولا أستمع لإنشاد القوافي على كثرتها في اليوتيوب والوسائط الأخرى غير أني في هذه الأسابيع الأخيرة كنت لا أجد وقتا إلا استمعت لقصيدة مروان بن أبي حفصة اللامية المشهورة في رثاء الأمير معن بن زائدة الشيباني، هذا الأمير المخضرم الذي عاصر الدولتين الأموية والعباسية، واستطاع لقوة عزيمته، وعلو همته، وسخاء نفسه، وشجاعة قلبه، وكرم محتده؛ أن يكون الرجل الأشهر مدائح ومراثي ومناقب ومآثر في ذلك العصر المليء بالرجال الكُمَّلِ، وكنت كلما سمعت المآثر الخالدة لمعن بن زائدة في القصيدة التي أدمنتها مؤخرا تداعت إلى ذهني مشاهد حية من صفات الوالد الماجد والقانت الأواه رجل الدين والدنيا محمد فال ولد أحمدو "افال" برد الله مضجعه.
 
فهذا الرجل الفذُّ الذي قضت قرية ازميته أمس فاتح صفر الخير من عام 1444 هجرية الموافق 28 أغسطس 2022م يومها الحزين الأول بدونه منذ أسسها حوالي 1976م  وأشرف على مصالح أهلها إشراف الناصح الأمين والمحتسب الراشد، كان قائدا عصاميا جمع أطراف السيادة بحمله الكَلَّ وقراه الضيف وإعانته على نوائب الحق؛ فخلال عقود من الزمن لم ير أهل القرية "افال" خارجا من منزله المبارك إلا إلى الصف الأول في المسجد أو لجلب مصلحة عامة للقرية أو درء مفسدة عنها؛ فمن "لغليك" غربا بسده العالي وتعلمنا للسباحة فيه، وعطائه الزراعي في أعوام شديدة كان هو السلة الغذائية الرئيسية في القرية، إلى حنفيات الماء العذب شرقا وجنوبا إلى مصالح الناس في الإدارات وربط علاقات أخوية متينة مع القرى والقبائل المجاورة، واستقبال الضيوف من الرسميين والسائلين وعابري السبيل في كل هذا تجد افال يتصدى لحمل تلك الأثقال بصبر وأناة وانشراح صدر "كأنك تعطيه الذي أنت سائله".
 
في مطلع التسعينات وبداية هبوب رياح العولمة على القرى الموريتانية وقف "افال" بالمرصاد لكل المسلكيات المخالفة للشريعة من مظاهر البذخ واللهو المنحرف في المناسبات الاجتماعية وإطلاق الأعيرة النارية التي ترعب الناس وتزعجهم، إلى تحريم التدخين وبيع آلاته في القرية، وملاحقة لاعبي الورق، ومظاهر الاختلاط، فما كانت مثل هذه المناكر التي كانت كبائر في تلك الأيام يمكن أن تقام أو تمارس في حمى ازميته بسبب قرارات "افال" ومضاء كلمته وهيبة الناس له، فقد أرادها قرية مبنية على تقوى الله وتلاوة كتابه آناء الليل وأطراف النهار، وكانت كذلك في ذلك الزمن الجميل.
 
 وإن أنس كل شيء فلن أنسى مشهدا علق بالذاكرة وترك أثرا لم تمحه الليالي ولم تنل منه الأيام، فكيف أنسى تلك الليالي الشتوية القارسة التي كان شيخنا القرآني الأستاذ محمد المختار ولد أحمد زيدان يسكن عند "أهل افال الغربيين" فكنا نأتي للدراسة ثلث الليل الأخير؛ فلَكَم رأيت بعيني وسمعت بأذني "افال" وهو الحافظ المتقن لكتاب الله قائما الليلَ يصلي في ذلك البرد القارس يتلو آيات ربه ويرجو رحمته مع مقاساته "للظيك": الربو) الذي كان يشتد عليه في فصل الشتاء فلا يمنعه ذلك من مناجاة ربه بتلاوة كتابه، وكان يتلو حتى تتوقف أنفاسه فيهدأ ثم يواصل {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ}، وكيف أنساه وهو يقاسي الأنفاس بشدة وهو يتأنق في الحواميم، ويطرب في سورتي الرحمن والواقعة كأنه يغذ السير إلى ما وعد الله عباده المتقين وأصفياءه المقربين في تينك السورتين.
 
آه يا أبا المكرمات يعرف كُلُّ مَنْ عَرَفَكَ وخَبَرَ عطاءك وصبرك وحلمك وعفوك وحسن ظنك بالله وبالناس  أن عدَّ الحصى أهون من إحصاء مناقبك، ويعلم الله يا أبتِ كم تهيبت هذا اليوم الذي تشرق شمسه بدونك، ولكنا لا نقول إلا ما يرضي الرب إنا لله وإنا إليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد فاجأنا خبر رحيلك يا افال، وأثقلت مصيبة فقدك كواهلنا؛ فمن يدلنا على معالي الأمور بعدك؟ ومن يأخذ بأيدينا إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟ ومن لنا بتلك الدعوات المباركات التي كانت تخرج من قلب حي متعلق بالله فتظلل أبناءك في أصقاع الدنيا فتنزل عليهم  بردا وسلاما وطمأنينة؟ وأين بعدك سنرى المكارم والمآثر في صورة رجل يمشي على قدمين؟.
 
حين علمت برحيلك ياوالدي حاولت أن أتماسك لمعرفتي أنك قادم إلى رب كريم طالما أحسنت به الظن، وإلى موقف طالما أعددت له ظمأ الهواجر وسهر الليالي، والإحسان إلى عباد الله، وكظم الغيظ والتعالي عن سفاسف الأمور، وحفظ اللسان وطيب المجلس طيلة قرن من الزمان كنت فيه الشاكر الحامد الصابر لكني حين أتذكر حال والدي وأخيك "بدَّ" وأنت آخر أخ له في الدنيا تخنقني العبرة ويكاد نشيجي يتعالى في غربتي ثم أتذكر أحاديث بَدَّ الحسان عنك وعن ذكره لمآثرك من صبر وشجاعة وإقدام وسخاء وجد، ثم يختصر تلك المآثر كلها بأنه لم ير أحسن منك سريرة، ولا أنقى قلبا، ولا أحسن ظنا بالله وبخلقه منك، وتلك شهادة من والدي شقيقك الذي تعلم تقديسه للصدق ومجافاته للمجاملات، وهي شهادة من رجل خبر الرجال في الأسفار ومواقف الشدة.
 
لن يجد أخوك بَدَّ اليوم أصدق فيك من قول كعب بن سعد الغنوي في أخيه أبي المغوار:
لَعَمري لَئِن كانَت أَصابَت مَنِيَّةٌ ... أَخي وَالمَنايا لِلرِجالِ شَعوبُ
لَقَد كانَ أَمّا حِلمُهُ فَمُرَوِّحٌ ... عَلَيَّ وَأَمّا جَهلُهُ فَعَزيبُ
أَخي ما أَخي لا فاحِشٌ عِندَ بيته ... وَلا وَرِعٌ عِندَ اللِقاءِ هَيوبُ
أَخٌ كانَ يَكفيني وكانَ يُعينُني ... عَلى النائِباتِ السُودِ حينَ تَنوبُ
حَليمٌ إِذا ما سَورَةُ الجَهلِ أَطلَقَت ... حُبى الشَيبِ لِلنَفسِ اللَجوجِ غَلوبُ
هُوَ العَسَلُ الماذِيُّ حِلماً وَشيمَةً ...  وَلَيثٌ إِذا لاقى العُداةَ قَطوبُ.
 
في آخر زيارة لك في فبراير الماضي كان الحمد يملأ فاك، والشكر يعطر لسانك تحدث زائريك بنعمة ربك عليك في الدين والدنيا والعمر الذي ملأته طاعة، وكانت إغفاءاتك الخفيفة جولة في ملكوت الله تحدث بعدها عن أسلافك وما أعد الله للمتقين والأبرار، كانت مصافحتك بلسما يشفي جراح أبنائك وعيالك وكلنا لك أبناء وعيال، ففي مثلك يعزى الجميع وبنفسي أبدأ ثم أعزي أبناءك الأبرار جميعا وأعزي ازميته في مصابها الأجل، ولن نقول إلا ما يرضي خالقنا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو حسبنا نعم الوكيل.
 

الفيديو

تابعونا على الفيس