بقلم العميد: أحمد عيسى المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
توحدت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في إسرائيل في حملتها التحريضية ضد الفلسطينيين، لا سيما ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس على أثر رده على أحد الصحفيين الذي طالبه بالاعتذار عن عملية ميونخ التي نفذتها مجموعة فلسطينية قبل 50 عاما ضد عدد من الرياضيين الإسرائيليين، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع المستشار الألماني اولاف شولتس في ديوان المستشارية الألمانية يوم الثلاثاء الماضي الموافق 16/3/2022، حيث قال الرئيس أن إسرائيل منذ بدء احتلالها للفلسطينيين العام 1948،ارتكبت 50 مذبحة ضد الفلسطينيين واصفاً كل مذبحة من هذه المذابح بهولوكوست، في محاولة منه لتشبيه هذه المذابح بجريمة الهلوكست التي نفذتها النازية الألمانية ضد اليهود في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، وأضاف الرئيس ان إسرائيل في رفضها حل الدولتين الذي يطالب بتنفيذه المجتمع الدولي برمته بما في ذلك ألمانيا انزاحت وفقاً لتقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية والدولية لدولة فصل عنصري أبارتايد.
وتعتبر حملة التحريض هذه هي الأشرس التي تنفذها إسرائيل ضد الرئيس عباس منذ انتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية العام 2005، وفيما التحريض ضد الفلسطينيين سمة أصيلة من سمات السياسة الإسرائيلية لتبرير استمرار احتلالها لهم وتنكرها لحل الدولتين، إلا أن هذه الحملة تختلف عن سابقاتها من حيث أسبابها وتوقيتها والمكان الذي انطلقت منه ومقاصدها.
أما من حيث أسبابها فهي تدور حول كشف الرئيس عباس خلال رده على سؤال الصحفي غير البريء عن التناقض الواضح بين الأساس الذي تقوم عليه الرواية الصهيونية والممارسات الإسرائيلية خلال عقود ضد الفلسطينيين، إذ تقوم الرواية الصهيونية على اعتبار إسرائيل استجابة للهلوكست، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل كيف لمن كان ضحية لهذه الجريمة المدانة إنسانيا، أن يحتل ويمارس جريمة الأبارتايد ضد شعب يدين هذه الجريمة وينشد الحرية والإستقلال والعيش الكريم بطرق سلمية وفقاً لمعايير الشرعية الدولية؟
ومن حيث التوقيت فقد تزامنت الحملة مع لحظة يشهد فيها النظام الدولي حالة من التحول والإنتقال من نظام الى آخر، حيث تحاول إسرائيل أن تضمن بقاء الغرب الشريك الأكبر لمشروع انشاء إسرائيل في المنطقة، داعماً للرواية الصهيونية، لا سيما وأن الغرب مهدد أن يفقد استمرار هيمنته على النظام العالمي المستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والأهم أن الرواية الصهيونية تشهد تراجعا سريعا لمصداقيتها حول العالم خاصة في أوساط الشعوب الغربية بما في ذلك اليهود داخل إسرائيل وخارجها، وقد بلغ هذا التراجع ذروته في خروج كثير من الأكاديميين وأصحاب الرأي اليهود حول العالم عن صمتهم والبدء في نشر أوراق وأبحاث وكتابات يرون فيها أن إسرائيل في مواصلة احتلالها وتنكيلها بالفلسطينيين إنما تسيئ لليهودية وتخطىء في توظيف الهلوكست وبالإمكان هنا الرجوع لكتابات الأكاديمي اليهودي الأمريكي المعروف بيتر بينارت والمشهور في الأوساط الأمريكية اليهودية بأنه الرجل الأصدق في أمريكا.
أما من حيث المكان فقد جرى الحدث في العاصمة الألمانية التي كانت مركز النازية والتي تعيش عقدتها وتحمل خطيئتها حتى يومنا هذا، الأمر الذي يعني أنها ستنحاز حكما لصالح الرواية الإسرائيلية على حساب الرواية الفلسطينية.
ومن حيث مقاصد هذه الحملة فتسعى إسرائيل هنا الى تثبيت الركائز التي قامت عليها روايتها خلال فترة هيمنة النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ذلك النظام الذي ظلم الشعب الفلسطيني وتنكر لحقوقه من خلال انزياحه التام لصالح إسرائيل والرواية الصهيونية.
أما من حيث مدى نجاح هذه الحملة في تجنيد الراي العام العالمي والنظام العالمي المتوقع أن ينشأ في لحظة وصول حالة التحول الجارية الى مآلها النهائي لصالح الرواية الصهيونية، فأجادل في هذه المقالة أن النجاح لن يكون من نصيب إسرائيل وذلك لعدة أسباب، أولها أن التحليل الموضوعي لردود السيد الرئيس يظهر أنه جمع في ردوده ما بين مفاهيم أربعة هي: حل الدولتين، والسلام، والمذابح والهولوكوست، والأبارتايد، وثاني هذه الأسباب أن الإستراتيجية التي خدمت إسرائيل بنجاح خلال العقود السبع الماضية لن تحقق النجاح نفسه في المستقبل وفقاً لرأي خبير الجيوبولتيك الأمريكي المعروف جورج فريدمان، ويدور ثالث هذه الأسباب حول حقيقة أن الرواية الصهيونية التي عمادها الهولوكوست لم تعد مقنعة لنسبة 40% من الشباب اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية وفقا لاستطلاعات الرأي التي تنفذ من قبل مؤسسات أمريكية متخصصة، مقابل قناعة هؤلاء أن إسرائيل هي دولة أبارتايد.
المصدر : القدس