بقلم:كيفين بويل
تتعرض الولايات المتحدة للجرائم العنيفة لأنها غارقة في الأسلحة ولأنها لا تملك مقاربة فعالة لعلاج الأمراض العقلية ووباء إدمان المخدرات والتفاوت وغياب المساواة.
يبدو الأمر غاية في السذاجة الآن - تلك اللحظة في عام 2020 عندما بدأت مصادر مطلعة من داخل الحزب الديمقراطي في الحديث عن جو بايدن باعتباره شخصية قادرة على إحداث تحوُّل. وسعياً لتجنب حدوث انهيار جراء الجائحة، ضخت الحكومة الفيدرالية 2.2 تريليون دولار في الاقتصاد، معظمها في صورة أموال دعم. وبدلت احتجاجات الصيف تصور الجمهور لدور العرق في نظام العدالة الجنائية. وكانت التحليلات تشير إلى أن الخسائر التي مُني بها الجمهوريون فادحة بما يكفي لتمهيد الطريق أمام أكبر موجة من التشريعات التقدمية منذ الستينات.
بعد مرور عامين، أصبح من السهل رؤية الحقيقة، وهي أننا لا نعيش في أميركا فرانكلين روزفلت أو ليندون جونسون أو دونالد ترمب أو حتى جو بايدن، وإنما نعيش اليوم في أميركا ريتشارد نيكسون.
وهذه ليست أميركا في السنوات الأخيرة لنيكسون، رغم وجود أصداء قاتمة لها في جلسات 6 يناير (كانون الثاني)، وإنما الأمة التي بناها قبل أن تسقطه فضيحة ووترغيت، حيث يجري خنق الاحتمالات التقدمية بسبب القانون والنظام السياسي السام والمحكمة العليا التي عاون في تشكيلها.
وجرى بالفعل تحديد ملامح رسالته الأساسية في الأيام الأولى من حملته الانتخابية عام 1968. وفي خطاب ألقاه في نيو هامبشير في فبراير (شباط)، قال: «عندما تمزق دولة لديها أعظم تقاليد في سيادة القانون بسبب الفوضى، عندما تمزق أمة كانت رمزاً لتكافؤ الفرص بسبب التوترات العنصرية... حينئذ أقول إن الوقت قد حان لقيادة جديدة في الولايات المتحدة».
وهنا نجد مزيج الجريمة والعِرق والخوف الذي اعتقد نيكسون أنه سيقوده إلى الرئاسة.
على مدار ذلك العام، أضفى نيكسون صبغة شعبوية على خطابه بالقول إنه كان يركض للدفاع عن كل أولئك الأميركيين الكادحين والملتزمين بالقانون الذين أصبحوا يشكلون «المركز الصامت».
بعد شهر، وبعد صدور حكم مهم من المحكمة العليا بشأن الاندماج داخل المدارس، أخبر بهدوء مؤيديه الرئيسيين أنه إذا جرى انتخابهم، فسيرشح فقط القضاة الذين سيعارضون تقدمية المحكمة.
وفي ليلة من أغسطس (آب) والتي قبل فيها ترشيح الحزب الجمهوري له في الانتخابات الرئاسية، قال: «إلى أولئك الذين يقولون إن القانون والنظام هو كلمة ترمز للعنصرية، هنا الرد: هدفنا تحقيق العدالة لكل أميركي».
على الصعيد العملي، لم يجر العمل على هذا النحو. في غضون عامين من انتخابه، كان نيكسون قد أقر مشروعي قانون جنائي رئيسيين مرتبطين بأحكام تستهدف المجتمعات السوداء الفقيرة. وضع أحدهم الأساس لحرب عنصرية ضد المخدرات. قام الآخر بتحويل القانون الجنائي لواشنطن العاصمة إلى نموذج تتبعه الولايات الأخرى من خلال السماح للقضاة على مستوى المقاطعات بإصدار أوامر تسمح باحتجاز المشتبه بهم الذين يعتبرونهم خطرين ويفرض عليهم الحد الأدنى من العقوبات على المدانين بارتكاب جرائم عنيفة.
وكان من المقرر حصول الشرطة على كل المساعدة التي تحتاجها لاستعادة القانون والنظام. وبالفعل، أرسل ليندون جونسون نحو 20 مليون دولار كمساعدة لإدارات الشرطة وأنظمة السجون في العامين الأخيرين له في منصبه. وارتفعت مشتريات الإدارات الشرطية من أسلحة ذات طابع عسكري، وزاد اعتماد الشرطة على الدوريات التكتيكية المدججة بالسلاح، وعدد الضباط الذين تدفع بهم الشرطة إلى الشوارع. وارتفع عدد نزلاء السجون في البلاد بنسبة 16%، بينما وصلت نسبة أصحاب البشرة السمراء من المسجونين حديثاً إلى أعلى مستوى لها منذ 50 عاماً.
ووصل النظام الجديد الذي ابتكره نيكسون إلى المحكمة العليا هي الأخرى، تماماً مثلما قال. كان أسلافه قد قدموا ترشيحاتهم الأولى للمحكمة اعتماداً على معايير فضفاضة كان الرؤساء يميلون للاحتكام لها. على سبيل المثال، رغب دوايت أيزنهاور في الاستعانة بجمهوري معتدل يبدو كرجل دولة، ورغب جون كينيدي في شخص بقوة واضحة، بينما مال جونسون لاختيار رجل عجوز من داخل واشنطن يعي جيداً أين تكمن ولاءاته. أما نيكسون، فإنه في أول قرار تعيين من جانبه في مايو (أيار) 1969 اختار قاضياً فيدرالياً غير معروف، وارين برجر، اتسم بسجل حافل في دعم سلطة الادعاء والشرطة على حساب حقوق المتهمين.
وعندما أتيح مقعد شاغر آخر بعد بضعة شهور، اتبع نيكسون النهج ذاته ورشح مرتين قضاة أعربوا من قبل عن معارضتهم لفكرة دمج أصحاب الأعراق المختلفة أو جرى النظر إلى الأحكام السابقة الصادرة عنهم باعتبارها تميل لصالح الفصل العنصري.
ومن جديد، تنحى اثنان من القضاة في سبتمبر (أيلول) 1971 ليختار نيكسون مرشحين اشتهرا بمواقفهما الصارمة ضد الجريمة والمتساهلة إزاء الحقوق المدنية. وبحلول ذلك الوقت، أصبحت لديه أجندة أكثر اتساعاً داخل ذهنه تضمنت نفوراً واضحاً تجاه التنظيم الحكومي للقطاع الخاص. وتمثل عنصر آخر في أجندة نيكسون في نقل المزيد من السلطات الفيدرالية إلى الولايات.
وظلت النسخة التي طرحها نيكسون من القانون والنظام قائمة من خلال حرب رونالد ريغان على المخدرات، وقانون السيطرة على الجريمة الذي أقره جورج إتش. دبليو. بوش عام 1990. واستمر الحال في عهد بيل كلينتون. كما زادت جهود التفحص والتدقيق للخلفية الآيديولوجية للقضاة.
ورسخت فترة حكم ترمب الصورة التي صاغها نيكسون للحزب قبل نصف قرن. واليوم، تلاشت نافذة إمكانية التغيير التقدمي التدريجي التي بدا أنها ظهرت عام 2020. وأصدرت المحكمة العليا أول ما يمكن أن يكون مجموعة من الأحكام التي ربما تستمر لعقد على الأقل تلغي السوابق الليبرالية. واليوم، تتصدر الجريمة والعنف المسلح قائمة الاهتمامات الرئيسية للناخبين.
من جهته، قال ترمب في خطاب له ألقاه مؤخراً، في وقت يفكر في خوض السباق الانتخابي الرئاسي عام 2024: «إذا لم يكن لدينا أمان، فليس لدينا حرية»، مضيفاً أن «أميركا أولاً يجب أن تعني السلامة أولاً، ونحتاج إلى جهد شامل لهزيمة الجريمة العنيفة في أميركا ودحرها بشدة. وعلى المرء أن يكون قاسياً وبغيضاً إذا لزم الأمر».
المؤكد أن نظاماً راسخاً بقوة لن يكون من السهل التخلص منه. ومن المغري الحديث هنا عن توسيع المحكمة أو فرض حدود عمرية، لكن ليس ثمة مسار معقول لإصلاح المحاكم من خلال مجلس الشيوخ، إلا أنه حتى لو حدث ذلك، فإن النتائج ربما لا تكون تقدمية، ذلك أنه من المحتمل أن يفعل الجمهوريون مثل ما فعله الديمقراطيون ويشرعون في تكديس أعوانهم داخل المحكمة بمجرد سيطرتهم على الكونغرس. كما أن الحدود العمرية لن تؤثر على بعض أكثر القضاة تحفظاً على مدار 13 عاماً أخرى على الأقل. في الواقع، ستجري إعادة صياغة المحكمة، مثلما كان الحال دوماً، بتغيير قاضٍ واحد في المرة الواحدة... قاض تلو آخر.
ومع ذلك، فإن الأمر المهم هنا كسر دمج نيكسون للعرق والجريمة والخوف. للقيام بذلك، يجب على الليبراليين التعامل مع الجريمة العنيفة كقضية محددة في حد ذاتها، الأمر الذي كانوا مترددين حياله، ثم إعادة صياغتها بلا هوادة ومحاولة كسر قوة الديناميكية العرقية من خلال إخبار الجمهور بحقيقة واضحة تماماً: تتعرض الولايات المتحدة للجرائم العنيفة لأنها غارقة في الأسلحة، ولأنها لا تملك مقاربة فعالة لعلاج الأمراض العقلية ووباء إدمان المخدرات، ولأنها تقبل درجة مروعة من التفاوت وغياب المساواة وتسمح لأجزاء كاملة من البلاد بالانزلاق إلى هوة اليأس.
* أستاذ التاريخ في جامعة نورث وسترن
عن«نيويورك تايمز»