توصف بلادنا بأنها " الاستثناء الموريتاني"، باعتبارها نموذجا في منطقة الساحل فيما يتعلق بمواجهة التحديات الناجمة عن الإرهاب والجماعات المسلحة. وهذه الصورة المشرِّفة تولدت وتطورت طيلة أكثر من عشر سنوات شغل خلالها رئيس الجمهورية الحالي، محمد ولد الشيخ الغزواني، وظيفة قائد الأركان العامة للجيوش؛ وظيفة تجعل منه الفاعل الرئيسي على مختلف ساحات المعركة في مجال الدفاع والأمن؛ الشيء الذي لا ينقص أبدا من دور المشاركين الآخرين، أيَا كانت مستوياتهم القيادية أو السياسية، في رسم وتطبيق الاستراتيجيات التي تمخضت عنها هذه السمعة الطيبة.
ما قلَّ ودلَّ...
تعيش بلادنا فعلا وضعية أمنية واستقرارا سياسيا تحسد عليهما: لم تشهد أي عملية إرهابية منذ 2011. كما أن المؤسسات تسير فيها بشكل عادي منذ أكثر من عقد من الزمان، بل إن الأوضاع في تحسن متزايد على هذا الصعيد منذ تولي السيد غزواني مقاليد السلطة، حيث سهر منذ أول لحظة من مأموريته على ارساء جو من الصفاء والأريحية في العلاقات الوظيفية بين مختلف الفاعلين داخل الوطن وكذلك مع الفرقاء والشركاء الأجانب.
ورغم هذا الجو العام الأمني المرضي، فقد امتازت خرجات رئيس الجمهورية في مرات عديدة بلغة لا تخلو نبرتها احيانا، رغم هدوء ورزانة صاحبها، من مخاطر لم نتعود قط على أن أعلى سلطة في الدولة تنذر بها. بعضها انتبه له الجميع ولقي آذانا صاغية، بل بولغ أحيانا في ترديده وتأويله بغية توظيفه في مآرب ومقاصد "سياسوية" من طرف أطياف من المشهد السياسي الوطني لها حساباتها الخاصة. نلاحظ ذلك بصورة خاصة في التعامل من "خطاب ودان" حينما استنكر الرئيس بوضوح الغبن التاريخي الذي تضررت منه كثيرا بعض الفئات الاجتماعية، وما زال البلد يعاني من مخلفاته "التهميشية". بينما لم تلق مسائل ومفاهيم استراتيجية أخرى أفصح عنها الرئيس في كلمات وجيزة ودقيقة، أو تصرف بشأنها، في مناسبات مختلفة، ما تستحقه من تفاعل وعناية رغم أهميتها القصوى.
وأعترف أنه لم يكن من اليسير علي شخصيا إدراك تلك الرهانات والإحاطة بها عند أول وهلة. لأنها حديثة الظهور نسبيا في العالم، بل ما زالت موضع شد وجذب بين الخبراء وغيرهم.
ورغم أن فهمها بشكل جيد يمر بمرحلة مخاض مستعصية لدى كثير من المهتمين والمنشغلين بالتفكير الاستراتيجي، فإنني سوف أحاول في هذه الورقة مواكبة رئيس الجمهورية مبينا ما أشعر بأنه فحوى رسالته الجديدة في المجال الأمني. وسيكون ذلك عبر الوقوف على ثلاث نقاط ارتكازية تتمحور حول: إشكالية الأمن المحسوس، التغير المناخي والتحديات البيئوية، التعاطي مع التوازنات العالمية الجديدة.
الأمن المحسوس و"الأخبار الكاذبة"
كغيرنا من شعوب العالم، لدينا في موريتانيا إحساس بالأمن تأخذ فيه المشاعر الذاتية مكانة متزايدة تبلغ أحيانا درجة القلق والذعر. ويتعلق الأمر بالخوف، الفردي والجماعي، الناشئ عن الشعور بانعدام الأمن رغم أن هذا الشعور كثيرا ما يتغذى على إشاعات واخبار كاذبة (fake news) تتطور وتنتشر بشكل رئيسي داخل المدن: في نواكشوط، في نواذيبو، في كيفا، في روصو ... إلخ. ولكن أصداءها السلبية محسوسة في أماكن أخرى. والأخبار الكاذبة قد لا تصدر عن سوء نية، غير أنها كثيرا ما تكون متعمدة للمساس بالأمن في جانبه المحسوس لدى المواطن، ولو أن العوامل والمعطيات الواقعية توحي بعكس ذلك، لكونها لا تنذر بخطر ملموس اطلاقا أو بخطر بتلك الدرجة. ولا يمكن لأي بلد أو مؤسسة ان تنجو من محاولات الإضرار بالأمن المحسوس.
وفي ظل الانتشار الواسع للتقنيات الجديدة للاتصال عبر الانترنيت، فإن الظاهرة تأخذ اليوم بعدا خطيرا يشكل التعاطي معه أحد الركائز التي تقوم عليها الاستراتيجيات الأمنية في أوجهها المختلفة: العسكرية، السياسية، الاقتصادية، التجارية، الصحية...إلخ. وعلى سبيل المثال، فكلنا نعلم كيف وفرت جائحة كورونا فرصة من ذهب في هذا المضمار، لدرجة أن منظمة الصحة العالمية تبنت استراتيجية إعلامية لمحاربة ما أسمته: "infodémie". والكلمة مكونة من جذرين: "épidemie" (وباء) و"information" (معلومة). وهي مزيج تختلط فيه المعلومات الكاذبة والصحيحة بشكل يشوش الصورة لدى المتلقي.
وفي بلادنا، فمنذ سنة تماما، أي في الخامس من شهر يوليو 2021، أطلق رئيس الجمهورية من مدينة روصو صفارة انذار لصيانة أمننا المحسوس والذود عنه؛ ويظهر جليا في رسالته بعد تربوي قوي تعززه إجراءات قانونية دقيقة ردعا للخطر وعقابا لمرتكبيه في حالة اقدامهم على المخالفة المجرَّمة.
وتم فعلا سن القانون الموعود. ويسير العمل به. ولا شك أنه شكل عامل استقرار، رغم ما يروجه المشككون و"الصيادون في المياه العكرة" للإشاعات الكاذبة وخطابات الكراهية. غير أن التهديد يداهمنا دائما من الداخل ومن الخارج. وكان من أخطر تجلياته الواردة من الخارج، أن موريتانيا تقهقرت هذه العام ب: "51" مرتبة على تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي" (GTI[i]) الذي يصدر سنويا عن "معهد الاقتصاد والسلام" (IEP[ii]).
ففي هذا العام، تحتل بلادنا، كما هو مبين في الخريطة التالية، المرتبة "84"؛ بينما كنا في الصف "135" في التقرير السنوي السابق