في أجزاء مختلفة من الكوكب يُسمع دوي صفارات الإنذار تحذيرا من الغارات الجوية. والعامل المشترك الوحيد في جميع النقاط الساخنة حول العالم هو مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد أيام من زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى كوسوفو، شنت سلطات كوسوفو، غير المعترف بها، هجوما على الصرب الذين يعيشون في المنطقة الشمالية في محاولة لعزلهم عن بقية صربيا، ما ينذر بحرب أخرى جديدة في أوروبا.
في تايوان وحولها، تجري الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها والصين بالتوازي تدريبات عسكرية، في الوقت الذي قررت فيه رئيسة مجلس النواب بالكونغرس الأمريكي، نانسي بيلوسي، زيارة تايوان بصحبة حاملات الطائرات، ما قد يثير صداما عسكريا صينيا أمريكيا مباشرا.
أعلنت إسرائيل عن استعدادها لضرب إيران، معربة عن استيائها من التقدم في حل قضية البرنامج النووي الإيراني. وإذا نشبت حرب في الخليج، فمن المرجح أن تطال كذلك الدول العربية المجاورة.
وبطبيعة الحال، لا يمكننا تجاهل أوكرانيا، التي يدججها الغرب بالأسلحة حتى تتمكن من مواصلة الحرب التي أثارها الغرب مع روسيا.
من جانبها، تقوم أذربيجان، مرة أخرى، بنقل الأسلحة الثقيلة إلى قره باغ، وربما يندلع في الأيام المقبلة تفاقم جديد للأزمة.
لكل صراع من تلك الصراعات خلفيته الخاصة، وربما أكثر من سبب للتصعيد.
ومع ذلك، فكل تلك النقاط الساخنة ليست سوى تفاصيل، وجزء من العملية الشاملة لزعزعة استقرار الكوكب، التي تنفذها الولايات المتحدة الأمريكية عن عمد.
لماذا يحدث ذلك؟ من الواضح، بعد كل شيء، أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت المستفيد الرئيسي من النظام الذي بنته في إطار العولمة المتمحورة حولها. لذلك، ومن الناحية النظرية، ستكون الولايات المتحدة الخاسر الأكبر من انهيار ذلك النظام.
الحقيقة أن هذا النظام قد تحول، ولم يعد مربحا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح أمامها مهمة تدمير هذا النظام باعتباره السبب في الخسائر، ولكن القيام بذلك على نحو يجعل الدول الأخرى تخسر أكثر من الولايات المتحدة نفسها، بغرض تدمير هذه الدول، بينما تظل الولايات المتحدة على حالها، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، التي أصبحت أساسا للهيمنة الأمريكية في العالم على مدار السبعين عاما التالية.
وقد رأينا الخطوة الأولى في هذا الاتجاه متمثلة في رغبة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في فرض رسوم إضافية، ووضع حد للعولمة، وإعادة الشركات إلى الأراضي الأمريكية.
وكما نرى، في الرسم البياني الأول، كيف كانت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تستهلك أكثر مما تنتج، وعجزها التجاري الخارجي آخذ في الازدياد، حيث بدأت دول أخرى في إطعام وكساء الولايات المتحدة الأمريكية وتزيد السيارات الأمريكية بالوقود.
في ذلك الوقت، قام البنك المركزي الأمريكي بفك ربط الدولار بالذهب، وبدأ في طباعة الدولارات الورقية، لشراء السلع والمواد الخام من الدول الأخرى حول العالم.
لكن طباعة النقود الورقية غير المغطاة، كانت مصدرا واحدا فقط للثروة الأمريكية، بينما كان الدين هو المصدر الثاني، وفي المرحلة الأولى كان المصدر الرئيسي. ونرى، في الرسم البياني الثاني، كيف أنه، ومنذ نفس الوقت، من منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأ الدين الأمريكي في النمو، والذي وصل اليوم إلى ما يقرب من 30.6 تريليون دولار.
مع نمو هرم الديون، أصبح من الصعب الحفاظ على بقائه، لذلك نما دور طباعة النقود الورقية غير المغطاة أكثر فأكثر، منذ أزمة عام 2008.
إلا أن ذلك أدى إلى تأخير الانهيار، وزيادة الاختلالات. انظر إلى الرسم البياني الأول لترى إلى أي مدى بدأ عجز التجارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في التعمق أكثر في المنطقة القيم السالبة منذ عام 2020. لذلك، وعندما شن دونالد ترامب حربا تجارية مع الصين، كان العجز التجاري الأمريكي مع الصين 250 مليار دولار، وهو يساوي الآن 450 مليار دولار. لقد تجاوز النظام نفسه، ولم تعد طباعة النقود الفدرالية تحفز الولايات المتحدة الأمريكية بقدر ما تحفز الصين، وهكذا دواليك.
علاوة على ذلك، فقد بدأت طباعة النقود الورقية غير المغطاة منذ صيف عام 2020 (وليس منذ بداية الحرب في أوكرانيا) في تسريع التضخم العالمي، وبدأت أسعار المواد الغذائية والبنزين ترتفع أسرع وأسرع. وهو ما لفتت عناية القراء الأعزاء له، قبل عام من الآن، في هذه المقالة.
ولإبطاء نمو التضخم، من الضروري وقف طباعة النقود. إلا أن ذلك لن ينجح، فالاقتصاد الغربي بالفعل في حالة ركود، وللخروج منها، من الضروري طباعة ليس فقط مزيدا من النقود، وإنما عشرة أو مئة ضعف من كم النقود التي تتم طباعتها الآن، ما يعني أن التضخم هو الآخر سيبدأ في النمو بجنون، وبأضعاف الأضعاف.
باختصار، لم يعد هذا المصدر (طباعة النقود الورقية غير المغطاة) موجودا.
في الوقت نفسه، لم يعد المصدر الثاني، نمو الديون، هو الآخر موجودا.
فأولا، كان المانح الرئيسي لاقتراض الولايات المتحدة الأمريكية هو حلفاؤها والأعضاء المتميزون في نظام العولمة الأمريكي: أوروبا واليابان، وحتى وقت قريب، الصين. وقد اشتروا معظم سندات الخزانة الأمريكية. إلا أنه، وبسبب التضخم، وارتفاع أسعار المواد الخام، فقدت هذه البلدان، وخاصة أوروبا، الميزان الإيجابي للتجارة الخارجية، فقد فقدوا الأموال الزائدة، التي كانوا يستخدمونها في الاستثمار في السندات الأمريكية.
وبعد أن كان لدى السندات الأمريكية مشتر واحد متبقي، وهو البنوك المركزية في الغرب، التي تطبع الدولارات (اليورو والين) وتقرضها للحكومات، اختفى هذا المصدر كما أشرنا سابقا.
وثانيا، بعد السطو على فنزويلا من قبل بريطانيا، ونهب الغرب لروسيا، لم يعد الدولار والسندات الأمريكية أداة استثمار موثوقة، وبدأت معظم دول العالم في سحب احتياطياتها تدريجيا من الولايات المتحدة الأمريكية.
وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من عجز هائل في الموازنة، وعجز تجاري هائل، ولا توجد أموال لتغطيتها. كما لم يعد من الممكن الحفاظ على مستوى معيشي مرتفع، وبدأ الاقتصاد الأمريكي في التفكك، ولن يتوقف الركود ولا التضخم، بل سيواصلان الازدياد.
علاوة على ذلك، ومن أجل مكافحة التضخم، تضطر البنوك المركزية الغربية إلى رفع أسعار الفائدة، وهو ما يؤدي إلى زيادة تكاليف خدمة الدين، دون أن يكون هناك ما يغطي كل هذه النفقات. وأصبحت قضية إفلاس الحكومات والشركات الغربية والمستهلكين الغربيين مسألة عدة أشهر لا أكثر.
في ظل هذه الظروف، تحولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى آكلة للحوم البشر، تأكل حلفاءها، كطريقة وحيدة لتأجيل الانهيار لفترة أطول قليلا، بإغراق العالم المحيط في فوضى دموية، بحيث تهرب رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة، والتي لا يزال كثيرون يعتبرونها "ملاذا آمنا".
لكن هذا هو الآخر مجرد تأجيل، فالولايات المتحدة الأمريكية محكوم عليها بالانهيار، واقتصادها غير قابل للحياة. ومع ذلك، لا يعني ذلك أن الأمر سيكون سهلا على بقية العالم، فالحديث يدور حول انهيار اقتصادي عالمي.
إلا أن لدى الولايات المتحدة الأمريكية فرصة للنجاة بتدمير كل مراكز القوة البديلة والاقتصادات الكبيرة، لربما تمنحها هذه المحاولة فرصة لبدء الدورة مرة أخرى.
وهذا ما نراه الآن: تريد الولايات المتحدة الأمريكية إجبار أوروبا على القتال مع روسيا واليابان وكوريا الجنوبية والأنغلو ساكسون الأصغر عمرا مع الصين. ليكون انهيارها بعد ذلك أقل وطأة.
حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بنشاط، وبشكل متزامن، في زعزعة استقرار جميع منافسيها، أبلغ دليل على أن انهيار الاقتصاد العالمي قد أصبح على بعد عدة أشهر، ولم يعد من الممكن تأجيل ذلك.
الولايات المتحدة الأمريكية كلب مسعور، يتعين إطلاق النار عليه، قبل أن يقتل العالم كله.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة "تليغرام" الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب