تحتفل مصر هذا العام بمرور 70 عاما على ثورة يوليو، وهي تصارع، مثل غيرها من دول العالم، خمس أزمات في وقت واحد، هي أزمات الغذاء، والطاقة، والتمويل، والمناخ، وجائحة كورونا. ومع ذلك، وعلى الرغم من نزيف الخسائر وأخطاء السياسات، فإن تجليات قدرة شعبها على التحمل، تفرض نفسها على المشهد بأكمله، وتكتب درسا جديدا، يبرهن على قوة الإرادة، ورفض الاستسلام، وعدم الانكسار تحت الضغوط. تكتب درسا جديدا يوجب تصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع، وذلك باستنهاض المجتمع وليس استرقاقه، وردم الخندق الذي يفصل الدولة عن المجتمع لا تعميقه؛ فالدولة لا تستطيع وحدها مواجهة الأزمات.
ثورة يوليو كانت في جوهرها حلقة من حلقات استعادة الإرادة الوطنية، التي ظلت خاضعة لسلطة المحتلين الأجانب قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر، منذ انهيار الدولة الفرعونية الحديثة. وقد حاول كثيرون في العصر الحديث استعادة تلك الإرادة مرة بعد مرة، من عمر مكرم، إلى محمد كريم، إلى أحمد عرابي، إلى سعد زغلول، إلى جمال عبد الناصر. وخلال النضال من أجل استعادة الإرادة نضجت الهوية الوطنية المصرية على أيدي مفكرين مثل رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين. كما تشكلت ملامحها الاقتصادية الحديثة على يدي طلعت حرب، ومن ورائه كتيبة من المصريين، الذين نقلوا الأساس الاقتصادي للهوية الوطنية من مجتمع كبار ملاك الأراضي إلى المجتمع الرأسمالي الحديث. في كل تلك الحلقات كان المجتمع، وليس الدولة، هو القوة المحركة لإنضاج الهوية واستخلاص الإرادة.
سوف تظل ثورة يوليو موضوعا للجدل، مثلها مثل كل موضوعات التاريخ، عندما ينظر إليها هذا من زاوية، وينظر إليها ذاك من زاوية أخرى
وسوف تظل ثورة يوليو موضوعا للجدل، مثلها مثل كل موضوعات التاريخ، عندما ينظر إليها هذا من زاوية، وينظر إليها ذاك من زاوية أخرى، أو عندما يحكم عليها واحد بمعايير زمنها، ويحكم عليها ثان بمعايير زمن آخر. إذا نظرت إليها من منظور فلسفة كارل ماركس؛ فإنها انتهت وفشلت، ومن منظور فرانسيس فوكوياما فإنها خانت شعاراتها التي رفعتها، ومن منظور هنري كيسنجر فإنها هي «ما تفعله» وليس ما يحمله خطابها السياسي. لكن ثورة يوليو في نهاية الأمر، سواء من منظور ماركس أو فوكوياما أو كيسنجر، هي فعل «المؤسسة العسكرية»، التي تحولت من «مؤسسة تشريفات» إلى «مؤسسة قوة»، تملك مفاتيح الدولة وتديرها وتعقد باسمها الاتفاقيات مع الخارج. وهي مؤسسة ينبع أحد روافد قوتها من ضعف المجتمع.
إن أخطر ما يشير إليه فوكوياما في تحليله لصعود وانهيار نظم الحكم، هو أن تتحول «النخبة الحاكمة» إلى مجرد «جماعة مصالح خاصة»، فهذا لا يعزلها فقط عن المجتمع، بل يضعها أيضا في صدام حياة أو موت مع القوى الأخرى التي تتنافس للوصول إلى الحكم. ومع أن فرصة تحول المؤسسة العسكرية إلى «جماعة مصالح خاصة» هي أقل نظريا من فرصة حدوث ذلك في الأحزاب والمؤسسات المدنية، إلا أنها ليست مستحيلة. وإذا استُخدِمت المؤسسة العسكرية لخدمة جماعة للمصالح الخاصة، فإن ذلك يكون دافعا لتصويب مسارها، بوصفها جزءاً من التركيب العضوي للدولة. وقد أثبتت تجارب خارجية خلال الربع الأخير من القرن الماضي، أن المؤسسة العسكرية الحاكمة، عندما تخضع للضغط، أو بفعل الرشادة السياسية، تتراجع من نفسها، وتخلي الطريق لتغليب المصالح السياسية العامة على مصالح الجماعات الخاصة، وهو ما حدث في بلدان مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال والبرازيل وتشيلي. ثورة يوليو، باعتبارها جزءا من عملية «تحرير الإرادة الوطنية»، تحمل في طياتها كل تناقضات «المشروع الوطني». تلك التناقضات تكشفها بجلاء تجليات هذا المشروع، الذي لم تتجاوزه مصر بعد، رغم محاولات تحريك خط الأساس السياسي إلى أعلى «بالشعارات»، وليس «بالفعل»، مرة برفع شعار «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، ومرة برفع شعار «إقامة دولة الوحدة القومية العربية»، ومرة برفع شعار «التحول إلى الاشتراكية»، فلا الخطاب الوطني نجح حتى الآن في إقامة «حياة ديمقراطية سليمة»، ولا في إقامة «دولة الوحدة القومية»، ولا انتقل خطوة واحدة على طريق «التحول إلى الاشتراكية». والآن فإن خط الأساس السياسي قد نزل إلى أسفل، إلى «الدفاع عن الإرادة الوطنية». وتثبت دورة الحياة الممتدة لـ»المشروع الوطني» حتى الآن، أن شهادة صلاحيته ما تزال قائمة ولم تستنفد بعد. وليس من الضروري أبدا أن تنبع صلاحية استمرار هذا المشروع، حتى في تجلياته المتناقضة، من محركات قوته، بل إن هذه الصلاحية قد تستمر، مع غياب أو ضعف محركات مشروع سياسي آخر؛ فأي مشروع سياسي إن لم يستقو بمصادر قوته، فإنه يستقوي بضعف المشروع البديل عنه. ولم تنجح قوة سياسية مصرية مدنية حتى الآن في تقديم برنامج سياسي يتمتع بمحركات قوة كافية لدفعه إلى منصة الحكم. وقد أثبت تطور «المشروع الوطني»، أنه يستطيع البقاء والاستمرار حاملا في تكوينه كل تناقضاته من مرحلة إلى مرحلة، وربما كان السبب في ذلك هو أن «الذاكرة الجمعية للمصريين» تتمسك بكل ما تستطيع من القوة بمبدأ «حرية الإرادة الوطنية» وهي تطابق بين هذه الإرادة والمؤسسة العسكرية، وتخشى بشدة من المجهول الذي قد يؤدي لفقدانها، إلى درجة التضحية بالكثير من الحريات الأخرى، والتغاضي عن الكثير من الأخطاء في السياسات، بل إن شدة الخوف على الإرادة الوطنية وصلت إلى درجة الخوف من المستقبل، لأن المستقبل يعني التغيير، وهو ما ينطوي على شعور عميق بعدم اليقين. ومن هنا فإننا نجد أن الوجدان الشعبي تسكنه قوة شرسة في مقاومة التغيير، والدفاع عن الأمر الواقع واستمراره، وهو ما يعني التضحية بالمستقبل، وزيادة الميل للجوء إلى الماضي للاحتماء به من غوائل المستقبل. ويصل الاحتماء بالماضي إلى أقصى صوره في اللجوء إلى التشدد في «التدين الشكلي»، حيث تكون «الآخرة هي المستقبل».
ومن المثير للدهشة أن الاحتفال بالعام السبعين لثورة يوليو لا يلقى الاهتمام الكافي من الأجهزة الرسمية القائمة على ذاكرة الشعب والوطن. وقد نتفهم أن تتبع هذه الأجهزة «نهجا انتقائيا» في التعامل مع محطات التاريخ، عندما تم تجاهل الاحتفال بالذكرى المئوية لاستقلال مصر( 1922- 2022)، على اعتبار أن المؤسسة العسكرية لم تكن طرفا في إعلان الاستقلال، لكنه من الصعب تفسير تجاهل الاحتفال الملائم بالعام السبعين للثورة، وليس فقط بيوم قيامها، بينما هي ما تزال تمثل حتى الآن أساس شرعية حكم المؤسسة العسكرية، رغم اختلاف التجليات السياسية الفعلية لهذه المؤسسة، خلال السنوات السبعين الماضية. المصري يحتفل بحرية إرادته بالغناء والرقص، ويسخر من التنكيل بها بالنكات واللهو، ويقاوم الاعتداء عليها بالبطولة في الحرب، حتى إن نقصه السلاح أو القيادة. ومع أن مصر بسبب انتهاك إرادتها غيرت لغتها ثلاث مرات، (الهيروغليفية، ثم الديموطيقية، ثم العربية)، وغيرت ديانتها خمس مرات، (ديانة آمون ، وديانة آتون، ثم الديانات السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام)، فإن وجدان المصريين استمر قادرا على جمع مخزون الثقافة في بوتقة واحدة، تتفاعل فيها اللغات والديانات والثقافات الأخرى الوافدة أو العابرة. وراح هذا الوجدان يعكس «عبقرية المكان» التي حدثنا عنها جمال حمدان، فكان الوجدان الشعبي وما يزال هو بحق الأكثر تعبيرا عن الثقافة الحقيقية للمصريين، وما تزال الثقافة غير المكتوبة، الموروثة، وليس الثقافة الرسمية، التي تغيرت من عصر إلى عصر، هي المحرك الأهم لسلوك المصريين في حياتهم حتى اليوم. ولأن الدراسات في أصول ومصادر غذاء الوجدان المصري فقيرة وقليلة ومهملة، فإن معظم صناع السياسة لا يفهمون مفاتيح الشخصية المصرية، ومحركات سلوكها، وهو ما يعبر البعض عنه بالقول إن المصريين «شعب ملوش كتالوج»! أي لا توجد معايير معروفة ونمطية لتفسير سلوكه الجمعي. ومع احتفال المصريين بالذكرى السبعين لثورة يوليو هذا العام، فإن علينا أن ندرك أن سر استمرار نظام يوليو هو بمقدار المحافظة على «الإرادة الوطنية»، وعدم التفريط فيها بأي شكل من الأشكال، وتعني حرية الإرادة الوطنية أن يظل المصريون ملاكا لوطنهم، أحرارا فيه. والإرادة الوطنية هي أن يتمتع المصريون بخيرات وطنهم، لا أن تكون خيراته لغيرهم. الإرادة الوطنية هي أن يعيش المصري في وطنه وخارجه، كريما مرفوع الرأس؛ فالإنسان هو أغلى ثروة تملكها مصر، والإرادة الوطنية هي ثروة هذا الإنسان، الإنسان الفرد، والإنسان المجتمع؛ فحافظوا على الإرادة الوطنية ولا تضيعوها، فهي خط الدفاع الأخير عن الهوية.
كاتب مصري