بقلم:حسن محاريق/مختص في الشأن لأوروبي
يلاحظ المتتبع للسياسات الأوروبية تجاه فلسطين تغيراً واضحاً في الأولويات، بسبب الحرب الأوكرانية الروسية والتغيرات الجيوسياسية التي رافقتها، وقد بدا ذلك واضحاً خلال زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في الرابع عشر من الشهر الجاري، إلى فلسطين قبل اسبوعين، حيث تضمنت زيارتها لقاءات مع رئيس الوزراء وجولة برفقة ممثل الاتحاد الأوروبي لدى فلسطين.
وخلال الاجتماع مع رئيس الوزراء محمد اشتية، تحدث أروسولا عن عدد من القضايا التي كانت دافعاً لمثل هذه الزيارة وشددت على أن الاتحاد الأوروبي الداعم الأكبر لخزينة السلطة الوطنية الفلسطينية، وقد أفرج الاتحاد عن مساعدات بقيمة 240 مليون يورو بعد توقف لأكثر من عامين نتيجة محاولة بعض دول الاتحاد اشتراط تعديل المناهج التربوية الفلسطينية ومن أبرزها هنغاريا، كما وتناولت أثر الأزمة الأوكرانية خاصة وأن فلسطين من المستوردين للحبوب الأوكرانية وهو ما يهدد الأمن الغذائي للدول الفقيرة ومن ضمنها فلسطين، أما الأمر الآخر فهو الطاقة وتعزيز العلاقات مع دول الشرق الأوسط كمصدر بديل للغاز بدلاً من الغاز الروسي، وهو أمرٌ لا علاقة للحكومة الفلسطينية به.
ولكن من الواضح أن دعم الاتحاد الأوروبي وإيمانه بمبدأ حل الدولتين لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي تذيل حديثها الموجه لرئيس الوزراء، واحتل مراتب متأخرة بين أولويات الاتحاد، وهذا ما ينذر بالتلاشي على مدى القصير، نتيجة للتغييرات الجيوسياسية على الأرض الفلسطينية المحتلة بسبب التوسع الاستيطاني ومشاريع الاحتلال المستمرة في الضفة الغربية من جهة والتغيرات التي تفرض على المنطقة بسبب صراع النفوذ بين اسرائيل بالتحالف مع ودول الجوار والخليج في محاولة لتقويض النفوذ الإيراني وحلفاءه في المنطقة.
أتت زيارة الاتحاد الأوروبي في وقت مثقل بهم الوضع الداخلي للاتحاد، فالاتحاد اليوم يواجه عدداً من التحديات تجعل منه منكباً على شأنه الداخلي وخاصة تعزيز أمنه وسيادة أعضاءه، وأهمها النتائج المترتبة على التهديد المحدق بالاتحاد من الجانب الروسي وطموحاته التوسعية اتجاه القارة الأوروبية، وسعي الاتحاد الحثيث لوقف هذا التوسع من خلال تعزيز وجود حلف شمال الأطلسي الناتو وتكثيف تواجده العسكري على طول حدود دول الاتحاد لمواجهة التهديدات الروسية، بالإضافة إلى محاولة ضم كل من أوكرانيا ومولدوفا كدول أعضاء في الاتحاد وذلك بتسريع علمية الانضمام وتخفيف حدة الشروط الاقتصادية والخطوات الاصلاحية للجهاز الإداري الحكومي.
يحاول الاتحاد مسابقة الزمن في أخذ الاحتياطات اللازمة التي قد تخفف من وطأة الأزمة الأوكرانية وتبعاتها، ومن أهمها مسألة الغاز وقدرة الاتحاد على الاستغناء عن الغاز الروسي بالكامل من خلال البحث عن البديل والممكن من مصادر الطاقة، اذ يصل اعتماد بعض الدول الأعضاء لغاية 100% مثل فلندا و70% مثل ألمانيا ودول البلطيق وايطاليا وغيرها من الدول التي تعتبر محورية داخل الاتحاد.
إن مسألة التغيير اتجاه قضايا الشرق الأوسط وخاصة القضية الفلسطينية هي حتمية، حيث أن مقايضة موقف الاتحاد الأوروبي اتجاه فلسطين سيكون بمثابة طوق النجاة للاتحاد من تحدي توفر موارد الطاقة وخاصة غاز البحر الأبيض المتوسط، إذ تعتبر اسرائيل الشريك والمحرك الرئيسي والمحوري لتكتل يضم مصر واليونان والتقارب الاسرائيلي التركي مؤخراً هدفه الأساسي التحرك في استخراج الغاز من حقول الأبيض المتوسط، وخاصة في ظل ارتفاع الطلب الأوروبي كسوق متعطش للغاز، ويمكن بذلك تدارك تبعات نقص الطاقة في القارة الأوروبية وامكانية تخفيف الاعتماد الكامل على الغاز الروسي.
إن مسألة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وبسبب الأزمة الأوكرانية وضعت من جديد عدداً من الأولويات أهمها تأمين مصادر الغاز واحتياج الاتحاد منها، وتمكين محيط الاتحاد الأوروبي ومحاولة وقف النفوذ العسكري أو السياسي للروس في فلك القارة الأوروبية وخاصة جنوب القارة الأوروبية ودول البلقان، وتوحيد توجهاته ومواقفه اتجاه الأزمة الروسية من خلال تأمين قدرة الاتحاد على الاستمرار في إقرار رزم من العقوبات المتتالية ضد روسيا.
وبالنتيجة ستتراجع عدة قضايا لدى الاتحاد الأوروبي، وأولها ملف انتهاكات حقوق الأنسان التي كانت تلعب دوراً في توجيه سياسة الاتحاد اتجاه الدول الأخرى حول العالم، وتليها قضايا الهجرة والتي بالمقابل ستستغلها الدول الأعضاء المناهضة لسياسات الهجرة لطرد المزيد من المهاجرين، واعتماد سياسات الحدود المغلقة أمامهم وأعني هنا المهاجرين غير الأوروبيين، بالإضافة للقضية الفلسطينية التي سيتم التعامل معها من خلال استمرار الدعم الأوروبي للحفاظ على قدرة المؤسسات الفلسطينية من أداء وظائفها ليس إلا، ولن يكون الاتحاد بصدد المبادرة في أي مشروع سياسي أو وساطات بين الطرفين الاسرائيلي الفلسطيني لحين انخفاض وتيرة الأحداث والتحديات في محيط الاتحاد.
إن الحروب والتغيرات الجيوسياسية التي ترافقها، وما يصحبها من ظهور تهديدات للأمن القومي للدول الأعضاء لدى الاتحاد الأوروبي، يجعل من مسائل حقوق الأنسان وحمايتها أمراً ثانوياً، ومعها القضية الفلسطينية كقضية تتعلق بحق تقرير المصير، لذا وجب على الساسة الفلسطينيين أيضاً التغيير في توجهاتهم بناء على المتغيرات التي تعصف بالسياسة العالمية، وتقدير البدائل التي تمكنهم من الحفاظ على مشروعهم الوطني كمشروع سياسي وليست قضية انسانية فقط.