بقلم:أسامة عثمان
أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، أنه يريد أن يناقش، في جولته المقبلة، إلى منطقة الشرق الأوسط، تقليل الصراعات والحروب العبثية بين إسرائيل والدول العربية. وتأتي هذه الأقوال من رئيس أكبر دولة، ومن الدولة الأكثر انخراطا في الصراع العربي الإسرائيلي الذي بدأ منذ عقود، فيما تعيش الأراضي الفلسطينية المحتلة حالةً متزايدة من اللايقين، بالنظر إلى هذا الاحتلال الذي أصبح أكثر شراسةً واستعداءً. مع الانسداد السياسي المتواصل. وفيما يمكن إعادة هذه العدوانية الفائقة التي تُلاحظ في القدس وغيرها، واستسهال القتل، على أدنى شبهة، أو بلا شبهة، أو خطر يهدِّد جنود الاحتلال، أو مستوطنيه، من أيِّ نوع، إلى عدَّة عوامل، منها تنامي قوَّة المتطرِّفين من الجماعات اليهودية الصهيونية، وتأثيرها في القرار السياسي وممارسات الاحتلال، وردود أفعاله على الأعمال النضالية الفلسطينية المكفولة بالقانون الدولي.
إضافة إلى ضعف الائتلاف الحكومي، بقيادة رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينت، واستشراف رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، برغم التهم الجدّية الموجّهة له، للعودة إلى الحكم. هذا إلى جانب قرار قادة الاحتلال، على المستويين، الأمني والسياسي، اتخاذ دور الهجوم، بما لا يسمح، كما يتمنَّوْن، بعودة موجة الهجمات الفلسطينية التي طاولت قلب التجمُّعات السُّكَّانية في دولة الاحتلال، ومنها تل أبيب، تلك العدوانية الخطيرة لم تعد تميِّز بين مقاتل فلسطيني ومدني، أو بين رجل وامرأة، حتى نالت من صحافيين، في أثناء أداء عملهم الصحافي، كما كان من مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، ولاحقا قتل جنود الاحتلال الصحافية غفران وراسنة، شمالي الخليل، وذلك بعد أن أعاق الجنودُ طواقمَ الهلال الأحمر الذين حاولوا إنقاذ الشابَّة، نحو نصف ساعة. وفي العُمْق من ذلك كله، أزمةٌ سياسية غير مسبوقة، أظهرها تكرُّر الانتخابات المبكِّرة، ففي غضون سنتين، تقريبًا، جرت أربع جولات انتخابية مبكِّرة، والانقسامات غير الهيِّنة في صفوف الإسرائيليين التي كثُر التحذير منها، فهذه العدوانية الوحشية لا تعكس شجاعة، بقدر ما تشير إلى توتُّرات وخوف.
ظهرت تلك الهجمات الفلسطينية نقيضةً للمسار التطبيعي، كما عندما تزامنت عملية الخضيرة مع قمة النقب التي استضاف فيها وزيرُ خارجية الاحتلال، يائير لبيد، وزراءَ خارجية مصر والإمارات والمغرب والبحرين، بحضور وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن. وتلك العمليات التي أوقعت قتلى في صفوف الإسرائيليين أظهرت هشاشة الأمن، حتى في قلب دولة الاحتلال، وكما كانت محرجة للمؤسَّسة الأمنية الاحتلالية، والقيادة السياسية، وهي كذلك لم تخدم السلطة الفلسطينية التي لا تزال ملتزمة بالمسار السِّلْمي، وفي انتظار تحسُّن شروط التفاوض، وقد زاد من ضيق قيادات السلطة توجُّه الوساطات الدولية والإقليمية إلى الحركات الفلسطينية المقاومة، وكأن تلك الفصائل، وفي مقدمتها حركة حماس، أصبحت هي العنوان الفعلي في أمر الحرب، أو السِّلْم.
تأتي زيارة بايدن المتوقَّعة إلى المنطقة؛ لتكمل جهود الإدارة الأميركية السابقة برئاسة الرئيس السابق، ترامب، الذي رعى "اتفاقيات أبراهام"، تلك الإدارة التي احتفلت بصفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتفصيل الحلِّ على مقاس الاحتلال، بل على مقاس أطروحات نتنياهو، ومَن هم على شاكلته، باستمرار ضمِّ الأراضي الفلسطينية، وبالقضاء على آفاق حلِّ الدولتين.
وكانت إدارة بايدن وعدت الفلسطينيين ببعض التوازن، بالعودة إلى تأكيد حلِّ الدولتين، وبالوعد بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس ؛ ما يعني اعترافًا أميركيًّا بالوجود الفلسطيني السياسي في القدس ، ولكن تلك الإدارة، باستثناء الرجوع عن وقف المساعدات المالية للفلسطينيين، لم تنجح في الوفاء عمليًّا، بتلك الوعود، فلا يزال المسار التفاوضي معطًّلا، بإرادة إسرائيلية، ولا يزال رفض حكومة نفتالي بينت إعادة فتح القنصلية الأميركية يحول دون فتحها. ولا تزال الإدارة الأميركية تمتنع عن رفع منظمة التحرير من قوائم الإرهاب. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، في حوار مع وكالة الأناضول، في مايو/ أيار الماضي، إنّ بلاده "تشعر أن هناك تراجعًا في بعض الالتزامات التي قطعتها إدارة بايدن". وأضاف: "لا نريد أن نصل إلى مرحلة إعادة النظر في العلاقة، نريد أن نعطي فرصة أخرى تثبت فيها الإدارةُ الأميركية أنها لا تكيل بمكيالين".
وهنا نعود إلى الهدف الأساسي الذي أعلن عنه بايدن، من جولته المقبلة، وهو تقليل الصراعات والحروب العبثية، كم يبدو هذا الهدف معقولًا، وممكنًا، وكم يبدو عادلًا؟.. لسنا بحاجة إلى العودة مطوَّلًا إلى أصل الصراع، وتتبُّع سرديته التاريخية، وفي طيَّات ذلك اعترافاتٌ احتلالية رسمية بتعمُّد ارتكاب المنظمات الصهيونية مجازر بحقّ الفلسطينيين المدنيين؛ إبّان النكبة؛ لترويعهم ودفعهم إلى الرحيل عن مدنهم وقُراهم؛ تمهيدًا لقيام دولة الاحتلال، وهي السياسة الاحتلالية التي لا تزال ماثلةً، سواء في أراضي الـ 48، أو في الضفة الغربية، كما في النقب، وفي منطقة الخليل؛ في مسافر يطا، جنوبي الخليل. فيما الممارسات الاحتلالية الاستيطانية، والتهويدية، في القدس ، وفي الضفة الغربية، لا تتوقف. والاستيطان مستمر، ويتوسَّع، بهجمات فلسطينية، وبدونها. ولا تُوقفه اعتراضاتُ الولايات المتحدة العلنية. فضلًا عن أن تُوقفه اعتراضات الأمم المتحدة، الممثلة للقانون الدولي الذي ينصُّ على لا شرعية تصرُّفات الدولة المحتلة في المناطق التي تحتلُّها، وفي صُلْبها نزعُ أراضي الفلسطينيين، وإقامة المستوطنات؛ بما يغيِّر الوقائع على الأرض، من طرف واحد، وبما يقضي على فرص حلِّ الدولتين، وهو الحل (الوسط) الذي وافق فلسطينيون عليه، مع ما ينطوي عليه من تنازلات كبيرة.
كلُّ تلك التنازلات التي جرت تحت رعاية دولية وأميركية، وضمن اتفاقات ثنائية؛ بين منظمة التحرير؛ الممثل الرسمي للفلسطينيين، وقادة الاحتلال، لم تدفع أولئك القادة إلى الوفاء باستحقاقات تعود على الفلسطينيين. وأخيرًا، ومن دون مواربة، جاء الموقف الاحتلالي الحالي: لا حلول سياسية، مع الفلسطينيين، ولا حتى كلام في هذا الموضوع، وكل الاتصالات المقبولة عليهم تنحصر في الشؤون المدنية والمعيشية اليومية.
ويا ليت هذه التهدئة، أو التسكين للمسار السياسي، توازيه تهدئة في وتيرة الاحتلال والاستيطان والتهويد! بل العكس هو الذي يحدث: انتهاكات مكثفة للمسجد الأقصى، وسماح متزايد لمئات المتطرِّفين من جماعات الهيكل باقتحام الأقصى، (ذكرت صحيفة هآرتس أنَّ عددهم بلغ، يوم الأحد،29 مايو/ أيار، 2600) والإعلان عن عزمهم هدْمَه، لإقامة هيكلهم على أنقاضه. هذا بالإضافة إلى استمرار استهداف المقدسيِّين في القدس وضواحيها، كما في حي الشيخ جرّاح، وغيره. يرافق ذلك في الضفة الغربية إطلاق العِنان للمستوطنين وأعمالهم العدوانية المنظَّمة، والمَحْميَّة من جيش الاحتلال، على أرواح الفلسطينيين، وممتلكاتهم، وبيوتهم.
ومع ذلك، وبرغم العجز الأميركي، عن تعديل هذه الصورة المختلّة، أو إظهار العجز، يأتي بايدن، من دون خطَّة محدَّدة، وهو صرّح: "ليست لديَّ خطط نهائية في الوقت الحالي". يأتي وهمُّه الأول تقليلُ الصراعات والحروب، من دون أن تكلِّف الإدارةُ الأمريكية نفسها عناء النظر في أسباب هذه التوتُّرات، أو ردود الفعل الفلسطينية، غير المتكافئة مع قوة جيش الاحتلال، ومستوطنين مسلَّحين ومدرّبين. وبالطبع، بايدن لا يقصد الفلسطينيين، وحدهم، ولكنه يقصد الدول العربية، مع أن غالبية تلك الدول لم تخض، يومًا، حروبًا جِديّة، ضد دولة الاحتلال، وقسمٌ منها لم يشارك أصلًا في حروب ضدَّها. ولكن الرئيس (الديمقراطي) ربما قصد إلى إماتة أسباب تلك الحروب، ونزع جذور الصراع. في استمرارٍ لرؤية ترامب التي حاولت عزْلَ الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال، وتهميشه، مقابل زيادة زخَم العلاقات العربية الإسرائيلية. ويدور الحديث حاليًّا عن فتح السعودية مجالها الجوي، أمام الطائرات الإسرائيلية، كجزء من مخطَّط التطبيع التدريجي بينها وبين إسرائيل.
لا نضيف جديدًا، حين نقول: إن النهج الأميركي لم يبارح، عمليًّا، منطق الحلول الاستسلامية، بالرغم من اقتراب الصراع من مراحله الأكثر خطورة وحساسية، وذلك بتصاعُد الخطاب الديني العنصري من جانب متطرِّفي دولة الاحتلال، سواء ضد الإنسان الفلسطيني، أو ضدَّ مقدَّساته، ووجوده، ومصيره. وهذا السلوك الأميركي ينمّ عن لا مسؤوليةٍ كبرى، وهو يجازف بأمن المنطقة، ككل، حين يتوهَّم أن مجاراة المنطق الاحتلالي الأكثر صلفًا، وعنجهية، هو النهج الأكثر واقعية؛ لأنه يبني على ما لم يثبت على مدار مسيرة الصراع، منذ عقود، وهو أن يستكين أهلُ فلسطين، ويرفعوا الراية البيضاء، بل ما ظلَّ ثابتًا هو عكْس ذلك.
عن "العربي الجديد"