بقلم: الاسير حماده درامنه
خاطب بن غوريون في حزيران (يونيو) من عام 1938، اللجنة التفيذية للوكالة الهودية قائلاً: "أنا أؤيد الترحيل القسري ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي". هذه العبارة كانت إحدى الأوامر التي أُرْسِلَتْ إلى الوحدات الصهيونية للاستعداد للقيام بعملية طرد ممنهجة للفلسطينين، فكانت هذه الأوامر مرفقة بوصفٍ مفصلٍ للأساليب الممكن استخدامها لطرد السكان الفلسطينين الأصليين بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق، والمحاصرة، وقصف القرى، وحرق المنازل والأملاك، وطرد الفلسطينين، وزرع الألغام في وسط الأنقاض لمنع السكان الفلسطينين من العودة إلى منازلهم... وهذا كله جاء في الخطة المعروفة بـ"الخطة دالت".
تضمّنت "الخطة دالت" في أوامرها المباشرة عملية تطهير فلسطين عرقياً، ومع اكتمال تنفيذها كان قد أصبح أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، وهو ما يقارب 800 ألف نسمة قد اقتُلِعوا من مكان عيشهم، و531 قرية دُمِّرَت، و11 حياً مدنياً أُخليَ من سكانه، وهذا ما يشكّل مثالاً واضحاً أن ما جرى لفلسطين هو عملية تطهير عرقي، ما يُعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية، ويخضع مرتكبوها للمحاكمة بموجب هذا القانون، علماً بأن مرتكبي الجريمة ليسوا مجهولين.
إن المنطلق الاستراتيجي لسياسة الإحلال والتهويد الصهيونيتين في فلسطين تتركّز على عدة أسس تتفرّع منها جملة من المبادئ، لأغراض مرحلية التنفيذ وفق الإمكانيات الصهيونية المتاحة، ومن هذه الأسس العمل الصهيوني الدؤوب والمستمر على تهجير يهود العالم إلى فلسطين لكونها العامل الحاسم لزيادة وتطوّر المجموع اليهودي في فلسطين، فضلاً عن تهويد الأرض الفلسطينية بعد احتلالها ومصادرة ما يمكن مصادرته لتزوير معالمها وتاريخها بما يخدم مصالح الصهيونية، إضافةً إلى محاولة تهيئة ظروف سياسية جديدة لطرد ما أمكن من الفلسطينيين بهدف إقامة المستوطنات لتغيير الجغرافيا والديمغرافيا لصالح المشروع الاستيطاني الإحلالي، وأخيراً تم التركيز على إيجاد اقتصاد عِبري من شأنه أن يكون محفّزاً لجلب المزيد من يهود العالم من خلال تحديد مستويات معيشية مرتفعة وإحلالهم على الأرض التي تتمّ مصادرتها من السكان الأصليين الفلسطينيين.
علاوةً على ما ذُكِرَ أعلاه فإن الركيزة الصهيونية الأساسية والأهم هي تهويد الأرض الفلسطينية بشتى الطرق والوسائل، وقد وضِعَتْ معها آليات منظّمة ومؤسّسات تنفيذية تعمل بدقة عبر وسائل عديدة من بينها "الخطة دالت" التي سبق ذكرها، والتي تتضمَّن المجازر والإحلال القسري والاستيلاء على الأرض، وقد لعِبَتْ المؤسسات الصهيونية المختلفة مثل الصندوق القومي اليهودي والوكالة اليهودية وغيرها من المنظمات الصهيونية دوراً بارزاً في مصادرة الأراضي الفلسطينيىة لليهود، ويتَّضِح استمرار ذلك النهج في مؤتمرات هرتسيليا السنوية في الوقت الراهن.
لتأكيد استراتيجية سياسة الإحلال وركيزة التهويد والتطوير العِرقي التي مارستها العصابات الصهيونية في نهاية عام 1948 على تطبيق سياسة إسرائيل المعارضة لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى موطنهم، ظهر ذلك من خلال مستويين ذكرهما أو جاء على ذكرهما المؤرّخ الإسرائيلي إيلان باده، لكتابة التطهير العرقي في فلسطين. المستوى الاول، وهو قومي، وقد اتَّخَذَتْ الحكومة الإسرائيلية في عام 1948 قراراً يقضي على جميع القرى التي يتم إخلاؤها وطرد سكانها الفلسطينين لتحويلها إلى مستوطنات أو حتى إلى غابات.
أما المستوى الثاني فهو مستوى دبلوماسي انصبَّ الجهد فيه على تفادي الضغط الدولي المتنامي على إسرائيل بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجِّروا منها.
في هذا السياق أصبح 85% من الفلسطينيين عام 1948، والذين كانوا يعيشون في المناطق التي احتلّتها العصابات الصهيونية لاجئين موزّعين على العديد من أقطار الوطن العربي والعالم، ومن هنا ولدت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في عام 1949، ولم تكن "الأونروا" ملتزمةً بعودة اللاجئيين وفقاً لما نصَّ عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1948، وإنما أُنْشِئت فقط لتكون أغراضها توفير عمل وتقديم مساعدات لنحو مليون لاجئ انتهى بهم الأمر إلى الإقامة في المخيّمات
في سنة 1950 بات الفلسطينيون الذين بقوا في فلسطين المحتلة عام 1948، ولم تنجح إسرائيل في طردهم تحت الحكم والسيطرة العسكرية الأمنية الإسرائيلية المباشرة ، بينما بقيَت الضفة الغربية تحت الوصاية الأردنية وقطاع غزة تحت الحكم المصري، الأمر الذي جعل الفلسطينيين يعيشون أوضاعاً صعبةً على كافة مناحي الحياة، فباتوا موزّعين قسرياً تحت الاحتلال والوصاية، إلى أن ظهرت عدوانية الاحتلال الصهيوني من جديد وقرّر توسيع سيطرته إقليمياً فاحتلّت إسرائيل في حزيران (يونيو) 1967 القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى احتلال الجولان السوري وسيناء المصرية، وبهذا أصبح الشعب الفلسطيني بأسْرِه في أراضي 1948 والضفة وغزة تحت الاحتلال الصهيوني المباشر.
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على الحالة الموصوفة أعلاه للشعب الفلسطيني حتى انبعثت الهوية الوطنية الفلسطينية من جديد، وركّزت على أنّ طريق العودة هي طريق تحرير فلسطين، فأثارت في نفوس الشعب الفلسطيني إحساساً جديداً أن طريق النضال والكفاح هو السبيل للعودة واستعادة الهوية الجامعة للشعب الفلسطيني بعد النفي والتهجير والطرد الذي تعرَّض له في سنوات 1948 و1967 فجاءت منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المقاومة لتحوّل اللاجئ الفلسطيني في مخيّمات اللجوء والشتات والأراضي المحتلّة إلى مقاتل في سبيل الدفاع عن أرضه وهويّته الوطنية الجامعة.
أربعةٌ وسبعون عاماً مرّت على النكبة، ولا زال شعبنا الفلسطيني صامداً أمام كل محاولات الوصاية والإلحاق ومشاريع التصفية للقضية الوطنية الفلسطينية، ولم يذوبوا في المجتمع الإسرائيلي، بل حافظوا على هويّتهم وعاداتهم العربية الفلسطينية، وكذلك تمسَّك الفلسطينيون الذين احتُلَّت أراضيهم عام 1967 بأرضهم وحقوقهم وقاوموا المحتلَّ الصهيوني وما زالوا على ذلك.