في كتابه "في مصيدة الخط الأخضر" يقول الكاتب اليهودي يهودا شيلهاب: "الحقوق المستندة إلى العنف والأبارتهايد لا يمكن أن تبقى مضمونةً إلى الأبد، والدرس المستخلص من التاريخ العالمي يبيّن أن دولة من هذا النوع لا بد أن تُهزم أو تهزم نفسها، وقد تجد إسرائيل نفسها ذات يوم في خضم انقلاب سياسي مثلما حصل في جنوب إفريقيا، أو في أتون حمام دماء مسحوب بمقاطعة دولية". فالاستيطان وتوسُّعُه بشكل كبير جداً يلازمه عنف مستمر ومتواصل من المستوطنين تجاه الفلسطينيين برعاية حكومة الاحتلال ينذر بتغيُّر شكل الصراع وإطالة عمر الاحتلال ما يعني تهديداً مباشراً لإمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على ما تمَّ إقراره دولياً وما تم الاتفاق عليه ما بين حكومة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية فيما عُرِف لاحقاً باتفاقية مبادئ أوسلو في العام 1993.
حيث أكد على ذلك رئيس حكومة الاحتلال الأسبق ورئيس المعارضة الحالي (نتينياهو) بتاريخ 28-1-2020 خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الولايات المتحدة الأسبق (ترامب) عندما قال: "أنت يا سيادة الرئيس تعترف بكل المستوطنات كبيرة وصغيرة، وهذه المستوطنات تم بناؤها بناء على تعاليم التوراة، لنا أجداد في الخليل، ونعمل على تحقيق الوصايا العشر الموجودة في الكتاب المقدس، وهذه الأرض تعبير عن روح الشعب اليهودي في العالم، وهذا اعتراف منا بأنها ملك إسرائيل". وفي تناغم صريح وتوافق استراتيجي ما بين الحكومة الاحتلالية والمؤسسات الدينية اليمينية المتطرفة بخصوص الموقف من الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية بغض النظر عن نتائجه؛ صرَّح الراب (حييم دروكمن) راب الصهيونية المتدينة، من على شاشة القناة 13 الإخبارية الإسرائيلية في اليوم الذي تلا خطاب نتينياهو نصّاً بأنه "يثق برئيس حكومة الاحتلال –نتينياهو- وعليه أن يفرض السيادة والقانون الإسرائيلي على كل الضفة الغربية، وما يقلق هو إمكانية إقامة دولة فلسطينية، ونحن نثق بأن هذه الدولة لن تقوم، وقرار تقسيم أرض إسرائيل باطل ويجب أن نسيطر على كل أرض إسرائيل).
وتوسيعاً لدائرة السيطرة وخدمة المشروع الاستيطاني الذي وفقه يتم شرعنة عنف واعتداء المستوطنين؛ أعلن وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي( غانتس) بتاريخ 23-10-2021 عن ستّ مؤسسات فلسطينية مدنية أهلية بأنها مؤسسات إرهابية، وأنها -أي حكومة الاحتلال- ستجرّم كل من يتعاطى معها أو يساندها أو يعمل فيها، وهذه المؤسسات هي.. مؤسسة الضمير: وهي مؤسسة أقيمت في العام 1993، تهتم بالنواحي الحقوقية الخاصة بالأسرى وذويهم، ومؤسسة الحق: وهي مؤسسة أسست في العام 1979، وتعمل في مجال توثيق حالات المساس بحقوق الإنسان في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، ومؤسسة بيسان: وهي التي أعلن عنها في عام 1984، وهي تعمل على تقوية الهوية القومية الفلسطينية من خلال مراكز ثقافية ومنظمات نسوية وشبابية وتعمل بالأساس في المناطق الريفية، ومؤسسة الدفاع الدولية عن أطفال فلسطين التي أنشئت في العام 1991، وتركز على الأطفال الذين تعرضوا للبطش من جنود الاحتلال، واتحاد لجان المرأة الفلسطينية والتي تأسَّسَت في العام 1980، وتهدف إلى مساندة النساء الفلسطينيات ومنع التميز ضدّهن ولأنها أيضاً تساند منع التطبيع مع دولة الاحتلال ومقاطعتها دولياً، واتحاد لجان العمل الزراعي، وهو يعمل على تطوير القطاع الزراعي في الأراضي المحتلة... وعليه، فما هو الإرهاب الذي تمارسه هذه المؤسسات؟ ولماذا يتم استهدافها بهذا الشكل؟ وهل سيفتح استهدافها الطريق أمام الاستيطان في حال تغيُّبها وإعاقة عملها؟
كما أن شهر كانون الثاني من العام المنصرم شهد جدلاً واسعاً داخل حكومة الاحتلال على إثر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" أطلقها وزير الأمن الداخلي (عمر بارليف) قال فيها إنه ناقش معضلة عنف المستوطنين مع نائبة وزيرة خارجية الولايات المتحدة أثناء لقاء عُقِدَ بينهما، وما إن أكمل تغريدته حتى جاء الرد من شركائه في الحكومة حيث قالت وزيرة الداخلية (أيليت شاكيد) نصاً "إن المستوطنين هم ملح الأرض"، وردّ وزير الأديان (متان كهاما) معلقاً بأن المستوطنين طلائعيون وليسوا عنيفين، مع العلم أن رئيس حكومة الاحتلال هو ابن الصهيونية المتدينة ورئيس مجلس الاستيطان الأعلى قبل عشر سنوات تقريباً (نفثالي بينيت).
فهذه السياسات الرسمية تعطي غطاءً وشرعنة للاستيطان وعنف المستوطنين الذي أخذ يحوّل المناطق الفلسطينية إلى معازل وكنتونات خاصة بهم من خلال إنشاء شبكة طرق خاصة بالمستوطنين، الأمر الذي يرسل من خلاله حدوداً للأبارتهايد ويفتح المجال أمام توسيع عنف المستوطنين وحمايته من خلال جنود الاحتلال. فقد نشرت مؤخراً أجهزة الأمن الإسرائيلية معطيات موثّقة عن نسب عنف المستوطنين بحق الفلسطينيين والتي جاءت كما يلي في العام 2019: 363 حادث عنف ضد الفلسطينيين، وفي العام 2020: 507 حوادث مماثلة، وفي العام 2021 وحتى شهر يونيو (حزيران) 416 حادثا، وتدَّعي هذه الأجهزة أن عدد من يمارس هذا العنف من المستوطنين محصور ما بين 80-200 مستوطن مع العلم أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية عدا القدس المحتلة 483 ألفا و975 مستوطنا يتوزّعون على 150 مستوطنة وعشرات البؤر الاستيطانية التي تعتلي قمم الجبال، وهذا ما وثَّقته أجهزة الأمن، وما تم الاعتراف به، فهل هذا معقول؟
يعلن المجتمع الدولي ليلَ نهار عن رفضِه للمشاريع الاستيطانية وكل ما يترتب عليها، ويعتبرها خرقاً للقانون الدولي وتعدّياً عليه، وذلك منذ زمن بعيد وحتى وقتنا الحاضر، ففي استطلاعات للرأي دولية ومستقلة وخاصة بمنظمات أهلية مدنية تُجرى في كل عام نأخذ منها مثلاً: استطلاع رأي أجرته جامعة بيلسلد في ألمانيا في العام 2004 أوضح أن 51% من الألمان يعتقدون بأن إسرائيل تمارس بحق الفلسطينيين ما مارسته النازية على اليهود، وفي نفس الفترة هناك استطلاع آخر أُجريَ في إيطاليا يوضّح أن 36% من الإيطاليين يعتقدون نفس ما اعتقده الألمان، واستطلاع آخر أُجريَ في العام 2012 يُظهر أن 38% من النرويجيين يحملون ذات الاعتقاد، واليوم ثلث يهود أمريكا تحت سن الأربعين عاماً يعتقدون أن إسرائيل تنفّذ (جنوسايد - أي مذابح بحق الفلسطينيين) و25% من يهود الولايات المتحدة يعتقدون بأن إسرائيل هي دولة أبارتهايد.
وبهذا؛ فإن ما يترسَّخ اليوم من مفاهيم في المجتمع الدولي لغالبية مكوّناته الرسمية والأهلية ومعظم هيئاته المدنية حول مخاطر الاستيطان وممارسات حكومات الاحتلال وعنف مستوطنيه تجاه الشعب الفلسطيني يقضي حتماً بأنه لا وجود لمستقبل هذا المشروع على الأرض وأن الإرادة الشعبية المناصرة لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ستنتصر على ما ينتجه هذا الاحتلال من الأبارتهايد الذي يرسم حدوده العنف وجنود الاحتلال، ولن تستطيع كل قوى الظلم في العالم إجبار شعب كامل له تاريخ وماضٍ وحاضر أعمق من دولتهم واستيطانهم على أن يسلّم ويرفع الراية، ما دامت هناك رغبة فلسطينية وإصرار على السير قدماً نحو خلق إرادة مشتركة مع المجتمع الدولي ومؤسساته لبناء مجتمع فلسطيني إنساني يتمتع بازدهار، وبنظام ليبرالي، ويؤسّس للعيش في دولة فلسطينية مستقلة وسيادية قادمة شاء من شاء وأبى من أبى، كما قال زعيم ثورتنا الشهيد ياسر عرفات.