نشر النائب أيمن عودة يوم الأحد الماضي، شريط فيديو قصيرًا، بطول دقيقتين ونصف فقط، كان صوّره وهو يقف أمام أشهر وأكبر المداخل إلى مدينة القدس القديمة المحتلة، المعروف باسم "باب العامود".
ولم تتوقف حملة التحريض الإسرائيلية ضد النائب عودة، رئيس القائمة المشتركة، منذ لحظة نشر الفيديو حتى يومنا هذا، ولم يشارك فيها أبواق اليمين الصهيوني المنفلت ووسائل إعلامهم، وحسب، بل انضم إليهم أيضًا قادة الأحزاب الصهيونية وإلى جانبهم معظم وسائل الاعلام العبرية ومن يعملون فيها تحت صفة صحفيين؛ وهم من هذه المهنة براء.
لقد نشر النائب عودة شريطه المصوّر بعد أن التقى مع عدد من المواطنين الفلسطينيين المقدسيين الذين اشتكوا أمامه من اعتداءت بعض المواطنين العرب من حملة الجنسية الإسرائيلية المجنّدين في قوات أمن الاحتلال، على المصلّين المقدسيين وعلى غيرهم، وعلى المواطنين الذين يسكنون داخل البلدة القديمة.
كان بمقدور النائب عودة ألا يعير الشكوى أي اهتمام، وأن يقتدي "بحكمة" القادة الوسطيين أو بما يفعله باعة التنظير أو الوعّاظ الذرائعيين حين تكون نجاتهم الشخصية دومًا بترداد النصائح "الفارهة" أو الشعارات المجوّفة، وأهمها في هذا الزمن: شعار "حايد عن ظهري بسيطة"؛ لكنه، وهو الذي تربى في أحضان حزب وجبهة رفع قادتها، منذ بداية التكوين، شعار : "لا للاحتلال وموبقاته ولا للخدمة في قوّاته"، قرر أن يخاطب جميع هؤلاء الشباب وعائلاتهم، على قلة أعدادهم، ويقول لهم: "من العار أن يقبل أي شاب، أو أهل أي شاب، أن ينخرط ضمن ما تسمى قوات الأمن .. قوات الاحتلال التي تسيء لشعبنا وأهالينا ولمن يذهب للصلاة في المسجد الأقصى"، ثم أضاف مؤكدًا على أن "موقفنا التاريخي هو أن نكون مع شعبنا المظلوم من أجل إنهاء هذا الاحتلال المجرم، ومن أجل أن تقوم دولة فلسطين وتعلق أعلامها هنا على أسوار القدس وليحل السلام في أرض السلام"؛ ثم توجه لمن يحمل سلاح الاحتلال من هؤلاء الشباب وأهاب بهم قائلًا: "ارموا السلاح في وجوههم، وقولوا لهم: مكاننا ألا نكون جزءًا من الجريمة والإساءة لشعبنا .. مكاننا الطبيعي أن نكون مع الحق والعدل، وجزءًا أصيلًا من الشعب العربي الفلسطيني ..". لم يختلق النائب أيمن عودة مسألة معارضة الجبهة الديمقراطية للسلام، وقبلها الحزب الشيوعي، للاحتلال الاسرائيلي، ولا موقفهم التاريخي من قضية التجنيد لما يسمى قوات الأمن الاسرائيلية، على جميع مصنفاتها؛ وعلى الرغم من كونها مواقف مدرجة تحت ما يصح تسميته "بأمهات المواقف"، المجمع عليها وطنيًا، نجد أن بعض الجهات العربية المحلّية، مؤسسات وشخصيات، تجرأت على استهجان مواقفه، أو حتى على اتهامه باللجوء إليها من باب المزايدة السياسية والتهوّر غير المحسوب الذي سوف يغيظ ساسة اسرائيل ويؤلبهم علينا، نحن المواطنين العرب، لا سيما في هذه الأوقات المحمومة. معظم العرب الذين انتقدوا أو هاجموا النائب عودة كانوا مدفوعين بنوايا سيئة ومن أجل مآرب سياسية مفضوحة؛ ولكن قلة غيرهم فعلوا ذلك بسبب خلافاتهم السياسية معه واعتراضهم على طريقه في العمل السياسي واصراره على ايجاد الشركاء اليهود والصهاينة من أجل الوقوف معهم ضد الاحتلال وضد الفاشية على حد سواء. ولقد أصاب النائب أيمن عودة في عدم رده على جميع هؤلاء، فالمرحلة بحاجة إلى رص الصفوف لا الى تفريقها.
ولكن بعيدًا عن تلك المشاهد، علينا أن نعترف بأن تنامي هذه الظاهرة وتعدد الأصوات التي بدأت تدافع عن "حق" البعض بالتجند للجيش، أو بالانخراط في أذرع الأمن على تنوّعها، تشكّل برهانًا على مقادير التآكل القيمي الذي أصاب مجتمعاتنا وشواهد على انهيارات واضحة في منظومة الكوابح الوطنية والمحاذير الاجتماعية السياسية التي كانت قائمة منذ البدايات، والتي أدّى انهيارها إلى زعزعة "محرّمات" كثيرة، لم يجرؤ أحد في الماضي على أن "يغمز جنباتها" أو أن يتحدّاها كارادة لمجتمع كامل. ولكم في القصص الصغيرة عبرة.
كنت من أبناء الجيل الأول الذين ولدوا بعد النكبة في قرية كفرياسيف الجليلية؛ وما زلت أذكر كيف كان الالتحاق بقوات الأمن الإسرائيلية، على جميع فروعها، سواء كان ذلك انصياعًا لفرض التجنيد الاجباري أو الانضمام الطوعي لقوات الأمن، أو كمصدر رزق وعمل، محظورًا كحالة بديهية يحترمها أهل القرية جميعهم، كما في سائر القرى الشبيهة بقريتي. وعندما أقول جميع أهل القرية، أتذكر أن أحد أبنائها كان قد انخرط ليعمل سجّاناً في ما يسمى مصلحة السجون الاسرائيلية؛ وكان انضمامه في وقتها استثناءً خارجًا عن المألوف. ولأن ذلك المواطن كان يعرف تلك الحقيقة، حرص ألا يعود، بعد انتهاء ورديات عمله، إلى القرية بزيّه الرسمي، فكان ينزل من الباص قبل وصوله الى تخومها ليقوم بتغيير ملابس "العمل" ويدخلها بلباسه المدني كيلا يستفزّ مشاعر أبناء قريته عامة. هكذا كانت "الدنيا" عندما كانت هوّياتنا مثل جيناتنا أصيلة، طبعا وتطبّعًا، وكانت المحاظير والمحاذير هواءً تتنفسه الأجيال وتحيا بهديه.
لقد حصر النائب أيمن عودة كلامه في "قوات الأمن" بتعميم مقصود؛ ونوّه بدور تلك القوات في تكريس الاحتلال وقمع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لا سيّما في القدس الشرقية، التي تواجه فائضًا من وجبات القمع والاضطهاد اليومي. ومن تابع تصريحات النائب عودة شعر بأنه كان واعيًا لتشعّبات مسألة الخدمة في قوات الأمن، داخل المجتمع العربي، وللتصدّعات التي ألمّت بها في العقود الأخيرة، خصوصًا اذا تحققنا من أعداد المواطنين العرب الذين انضموا خلال السنوات الأخيرة إلى الأجهزة الأمنية على فروعها: الجيش، الشرطة بكل أقسامها، حرس الحدود، مصلحة السجون ، النيابات العامة وغيرها من المواقع التي كانت بمثابة "مناطق محرّمة" يمنع الاقتراب منها والعمل فيها، مثل وزارة الخارجية وسلكها الديبلوماسي، وأجهزة القضاء على درجاتها.
فهل نحن ازاء انهيارات جدّيّة، أم أننا نشهد حالة مستمرة من الانصهار الطبيعي الذي يجب أن يحصل بين أي دولة ومواطنيها؟
لم يتطرق النائب أيمن عودة الى هذه القضية، فمن سيجيب على هذه الأسئلة؟
كنت في الماضي قد انتبهت ونبّهت مما تضمره سياسة الدولة التي بدأت تعتمد أنماطًا جديدة من مظاهر الاحتواء السياسي؛ وأشرت، حينها، إلى ما تولّده بيننا تلك السياسات من "المعاضل السياسية"، التي ما لم نواجهها فسيكون تأثيرها على مستقبل علاقتنا مع الدولة وعلى شروط حياتنا في قرانا ومدننا كارثيًا.
وذكّر إن تنفع الذكرى؛ فلقد تناولت هذه المسألة بعد أن اشتكت قيادات المجتمع العربي السياسية والمدنية، قبل سنوات عديدة، من ظلم اسرائيل وعدم استيعابها لمواطنيها العرب في الوظائف والشواغر التي تتحكم فيها مؤسسات الدولة، وطالبتها بضرورة تحقيق المساواة الفورية والتامة.
حينها قلت أنه لا يختلف اثنان حول عنصرية اسرائيل تجاه مواطنيها العرب؛ لكنني لم أفهم كنه المطالبة كما أعلنتها القيادات وقتها. فهل فعلًا نحن نريد مساواة كاملة في جميع ميادين العمل المتاحة في الدولة؟ أنريد، حقًا، مساواة وظيفية بكل وزارة ودائرة ومؤسسة عامة وحكومية ؟ وأضفت: هل نريد، مثلًا، خمس ما تتيحه "الكنيست" من وظائف في جميع مواقعها ؟ وهل يشمل ذلك حصّة كاملة في حرس الكنيست؟ أوهل يعتبر عمل المواطن العربي في وزارة الشرطة أمرًا مسموحًا ؟ وهل يجب أن نطالب بأن يكون قائد الشرطة العام أو نائبه مواطنًا عربيًا ؟ أم علينا أن نكتفي، مثلًا، بالمطالبة بتعيين قائد شرطة عربي للمنطقة الشمالية أو في النقب ؟ أو قائد شرطة عربي لمكافحة العنف والمخدرات ؟ هل تملك قياداتنا موقفًا ازاء هذه التساؤلات ؟ أم سيعتبر كل من يخدم في الشرطة خارجًا عن إجماع مجتمعه أو منحرفًا أو ربما خائنا ؟
وماذا عن آلاف المواطنين الذين يخدمون كسجانين وضباط كبار في مصلحة سجون الدولة؟
وتساءلت أيضًا، هل يسمح للمحامين العرب أن يوظّفوا لدى نيابات الدولة وأن يتدرجوا فيها حتى أعلى المناصب ؟ وهل من حقنا أن نطالب، كمواطنين مصرّين على نيل حقوقنا المدنية كاملة، بأن يكون النائب العام للواء الشمال أو غيره عربيًا ؟ وهل نريد حصصنا في جميع المرافق والشركات الحكومية مثل البنوك والموانيء والجمارك وسلطات الضرائب وغيرها وغيرها؟
لن استعيد كل ما كتبت في الماضي، فجميع تلك التساؤلات لم تنل أية عناية من أية جهة أو مؤسسة مدنية أو حزب أو حركة أو قيادة أو مثقف. ومضت السنون وما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من "الانتماءات السائلة" وتعاني من تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية التي أصبح يمثلها في حياتنا اليومية المواطن العربي "الشاطر" الجديد، الذي لم يعد يعنيه أن ينزل من الباص قبل دخوله القرية متحاشيًا خدش مشاعر أهلها، بل يتعمد أن يدخلها متبجحًا "كرامبو القبضاي" وبارودته ملقاة على كتفه.